قانون الأسباب | من سنن الله في النّفس والحياة

الشيخ الهادي بريك

الشيخ الهادي بريك

نصّ القرآن الكريم مرّات لا تحصى على قانون الأسباب الذي قوامه أنّه لا تؤكل ثمرة إلاّ من بعد جهد وسبب. من ذلك أنّه أخبرنا عن مريم البتول عليها السّلام إذ هي تحت النّخلة توشك أن تضع وليدها عيسى عليه السّلام. قال لها (وهزّي إليك بجذع النّخلة تساقط عليك رطبا جنيّا). السّؤال هو : أليس هو الذي كتب عليها هذا سبحانه أن تحمل بدون ذكر مسّها وهي فتاة حليمة كريمة تخاف قالات النّاس وأهلها؟ أليس الأجدر إذن أن يأمر هو نفسه سبحانه النّخلة بأن تساقط عليها رطبا جنيّا تأكله وييسّر لها الولادة وربّما يهوّن عليها آلام الوضع؟ ومن يصدّق أنّ امرئ ـ حتّى لو كان قويّا شديدا ـ يمكنه أن يهزّ إليه بجذع نخلة فتساقط عليه من رطبها؟ لا أحد. فما بالك بمريم البتول وهي فتاة صغيرة على وشك الوضع وخائفة. العبرة هي إذن أنّ الله سبحانه أمرها بأن تهزّ إليها بجذع النّخلة ليعلّمنا نحن أنّه لا شيء من دون سبب.

حتّى عندما يتعلّق الأمر بالمعجزات النّبوية. فكيف إذا كان الأمر خارج دائرة المعجزات النّبوية؟ سقوط الرّطب الجنيّ لم يكن بأثر من هزّ مريم البتول عليها السّلام لجذع النّخلة. إنما كان بأمره سبحانه النّخلة أن تفعل ذلك. بمثل ما أمر النّار أن تكون على خليله إبراهيم عليه السّلام بردا وسلاما. وفي مشهد آخر يعلّمنا أنّه لا شيء بدون سبب بشريّ قال سبحانه لعبده موسى عليه السّلام (واضرب بعصاك الحجر). من يصدّق أنّ ضربة موسى بعصاه الحجر هي التي جعلت الماء ينبجس انبجاسا جعل الإسرائيليين كلّهم ببطونهم الاثني عشرة يشربون؟ لا أحد. إنّما هو أراد أن يعلّمنا أنّه لا مناص من سبب يأتيه موسى عليه السّلام.

وبمثل ذلك عندما قال له (واضرب بعصاك البحر). الأمر نفسه. إذ لا يصدّق أحد أن ضربة موسى عليه السّلام هي التي شقّت البحر فكان كلّ فرق كالطّود العظيم. إنّما أراد أن يعلّمنا أنّه حتى في المعجزات النّبوية لا مناص من سبب بشريّ وجهد إنسانيّ ـ هو رمزيّ لا فعليّ ـ فكيف يكون الأمر معنا نحن؟ الأمثلة هنا كثيرة. من ذلك أنّه كثّف قانون الأسباب في قصّة ذي القرنين. إذ ظلّ يقول مرّة من بعد مرّة (ثمّ أتبع سببا). كلّما توجّه إلى جهة ما من الأرض قدّم لذلك بإتّباعه سببا. حتّى الأنبياء عليهم السّلام لا مناص لهم من الأخذ بالأسباب. فمن قصّر في ذلك لا ينال ما كان يريد. أليس كان جديرا بأن يحمي سبحانه نبيّه محمّدا عليه السّلام وهو عائد من الطّائف؟ لم يستجير إذن بمشرك؟ كلّ ذلك لنتعلّم نحن أنّه لا فوز ولا نجاح ولا عمل ولا كسب إلاّ من بعد الأخذ بالأسباب قدر الإمكان. انقسم النّاس في هذا أقساما شتّى فمن قائل أنّ الأسباب هي الحاكمة. ومن ذلك قدّسوا العلم تقديسا. ومن قائل أنّ الأسباب لا عبرة بها سواء أخذ بها الإنسان أم أهملها. ومن قائل أنّ الأسباب مخلوقة من الله سبحانه ككلّ مخلوق. فهو شيّد كونه وخلقه واجتماع عباده على أسباب وسنن وأقدار من أخذ بها فاز ومن فرّط فيها لم ينل مراده. وأنّ الله سبحانه لا يخرق الأسباب في العادة. إلاّ في مناسبات قليلة. وأكثرها ذهب مع آخر بعثة نبويّة. القول الأخير هو القول الإسلاميّ الذي يتوسّط بين الذين يعبدون الأسباب عبادة وبين الذين لا يعيرونها أيّ اهتمام. نحن اليوم أجدر النّاس بالاعتبار بقانون الأسباب الذي أخذت به أمم وشعوب من حولنا فتقدّمت ونمت وتأبّت عن شروخ اجتماعية كبرى وصمدت في وجه محن. وهو القانون ذاته الذي فرّطت فيه أمّتنا في القرون الأخيرة فقعدت بها السّبل. لو لم يكن هذا موثّقا في الوحي لاكتشفته العقول بما جهّزها الباري سبحانه. فكيف وهو منصوص عليه هناك ونراه رأي العين من حولنا؟

لئن شكرتم لأزيدنّكم

ورد هذا القانون في سورة إبراهيم المكية وذلك بقوله (وإذ تأذّن ربّكم لئن شكرتم لأزيدنّكم ولئن كفرتم فإنّ عذابي لشديد). هو قانون مؤكّد بمؤكّدات قوية. منها أنّه جاء بإذن من الله سبحانه. بل بإذن مؤكّد هو نفسه بفعل مزيد. إذنه سبحانه هي إرادته وكلمته ومشيئته. هو الفاعل لما يريد. كما تأكّد هذا القانون بلام التأكيد وبالنّون المضعّفة. وهي للتّأكيد كذلك.

كلّ ذلك ليملأ الأفئدة المؤمنة بعلوية هذا القانون وصرامته. بل إنّه مؤكّد بمؤكّد آخر. وهو نفي ضدّه. إذ قال (ولئن كفرتم فإنّ عذابي لشديد). هو قانون متوازن متعادل. وقال أهل اللّسان أنّ أقوى صيغة لتأكيد أمر يكون بنفي ضدّه. كما في قوله سبحانه (لا إله إلاّ الله). فإذا شيّدت الحقيقة على نفي ضدّها فهي أقوى وأرسخ. الشّكر المقصود هنا الإقرار بالله سبحانه والاعتراف به إلها واحدا أحدا أوحد وربّا بمثل ذلك وحاكما وبمختلف ما وصف به نفسه سبحانه بما يفضي إلى عبادته. وليس كالعبادة شكرا. إذ فيها الرّكوع والسّجود والذّكر والحمد وغير ذلك. والشّكر درجات لا تحصى. محلّها الأوّل هو الفؤاد الذي لا يطّلع عليه إلاّ هو سبحانه واللّسان يصدّق ذلك. والجارحة تنفّذ أشواق الفؤاد وأقوال اللّسان. هو شرط مشروط ووعد موعود: لئن شكرتم لأزيدنّكم. الزّيادة هنا تحتمل زيادة في مناسيب الشّكر التي تحيل بدورها إلى زيادات أخرى في العبادة. كما أنّها تحتمل زيادة في الحياة الطّيبة. والمعنيان يتكاملان ولا يتصادمان. مصداق ذلك كثير منه قوله سبحانه (ولو أنّ أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السّماء والأرض). وقوله كذلك (ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم). يغلب أن يكون القول الفصل هنا في الزّيادة أنّها زيادة في الحياة الطّيبة التي وعد بها سبحانه المؤمنين في الدّنيا. إذ الحياة الطّيبة درجات. عدا أنّ الحياة الطّيبة لا تعني انفكاك الابتلاء عن الإنسان. ولا تعني كذلك عدم تعرّضه إلى محن واختبارات وامتحانات وعنت ورهق ومشاقّ. طيب الحياة في الإسلام في رضى الفؤاد أوّلا. وسكينة المهجة ثانيا. وسلامة القلب ثالثا. وما تيسّر من بعد ذلك من المال والمتاع فهو كاف وزيادة.

ألسنا نرى اليوم بأمّ أعيننا كيف أنّه كلّما ارتفعت درجات التّرف ارتفعت معها درجات الانتحار وانتشار أمراض الكآبة؟ ولكن وردت الزيادة هكذا مرسلة مطلقة عامّة. لتكون شاملة جامعة. الله يزيد عباده دوما. ألست تقرأ في القرآن الكريم أنّه في الآخرة ـ لأهل الجنّة ـ للمؤمنين زيادة؟ اختلفت كلمة المفسّرين في هذه الزّيادة. ولكنّها زيادة. وكلّ زيادة هي زيادة خير. من يكون رضيّا يزاد رضى ومن يكون هنيئا يزاد هناء. الجزء الثّاني من القانون ـ بل هو زوجه وصنوه الذي يعضده ولا يخذله ـ هو (ولئن كفرتم فإنّ عذابي لشديد). لم يقل هنا: لأزيدنّكم. لأنّ زيادة الكفر ليست زيادة. وإن كانت زيادة فلا تنسب إلى الله سبحانه. وهو ما يرجّح بقوّة أنّ الزّيادة الأولى هي زيادة شكر ورضى. ولا ينفي ذلك زيادة مال ومتاع وقوّة. يحمل القانون البشرى والنّذارة معا حدبا على سنّة القرآن في الجمع دوما وفي كلّ موضع بين التّرغيب والتّرهيب لعلّ النّفوس ترعوي وتنزجر وتثوب إلى الله سبحانه

بقلم الشيخ: الهادي بريك