في ذكرى فتح مكة عِبَرٌ دانية

الشيخ الهادي بريك

الشيخ الهادي بريك

ماذا يعني أن يُنزل الله سبحانه في واقعة الحديبية سورة من المفصّل. ويسمّيها سورة الفتح. في حين أنّه اختصر فتح مكّة – الذي وقع بعد ذلك بعامين – في سورة من القصار. وهي سورة النّصر؟ وهل يسبق الفتح النّصر؟ ومعلوم أنّ مكّة فتحت في العشرين من رمضان. ولكن هل كان الفتح مقصودا؟

الحقّ أنّ مكّة فتحت بالقوّة (بتعبير الفلاسفة) يوم وقّعت قريش على مصالحة مثيرة للجدل بين الصّحابة أنفسهم. إذ عدّوها دنيّة في الدّين بتعبير الفاروق عمر عليه الرّضوان وإيّاهم جميعا. بل فتحت مكّة يوم أخفق حصار قريش وغطفان للمدينة – وبعد زهاء شهرين كاملين – من اجتياز الخندق. لم يكن خندقا غائرا في الأرض تهابه خيولهم فحسب. بل كان خندقا ظاهره نيران الخيبة تؤجَّج في صدور الغزاة وباطنه رمز لصفّ إسلاميّ واحد معبّإ بالأمل. كان الخندق مقبرة جماعية لمكوّنات الجبهة العربية التي سمّاها القرآن (الأحزاب). كان خاتمة ملحمة ثأرية فاشلة بدأت بواقعة بدر وثنّت بواقعة أحد. وممّا يسّر عليه (عليه السّلام) تغيير عنوان المقاومة (من التّحصين الدّاخليّ إلى ملامسة تخوم الشّاهد الدّوليّ) انهيار مكوّنات الجبهة الإسرائيلية وبالسّرعة ذاتها التي انهارت بها الجبهة العربية (من بني قينقاع حتّى خيبر مرورا ببني النّضير وبني قريظة وبني المصطلق). ولم يكن الخيط النّاظم لانهيار الجبهة الإسرائيلية في غضون سنوات خمس فحسب سوى عنوان الخيانة لدستور المدينة الذي اعترف بوجودهم ومنحهم حقّ الحياة ضمن نظام إداريّ يحلو لي أن أخلع عليه الصّفة الفدرالية التي تتيح للأقلّيات أكثر الحرّيات في إدارة شؤونها الداخلية. كانت واقعة الخندق إذن تأشيرة عبور إلى المناطق المجاورة فكانت (الحديبية) محطّة أولى على درب ذلك العبور. ولم تكن (الحديبية) إلاّ محطّة سياسية أولى مع الجبهة العربية. وكانت حصيلتها الكبرى: تمزّق تلك الجبهة لأوّل مرّة. إذ التحقت قبيلة عربية مشركة مهمّة بمعسكر الإسلام تحالفا عسكريا وسياسيا (قبيلة خزاعة التي ستكون هي السّبب المباشر لفتح مكّة). وهو أوّل متغيّر سياسيّ عسكريّ في العلاقة بين الوجود الإسلاميّ والجبهة العربية. وهو ثمرة من ثمرات الفشل المدوّي لتلك الجبهة في غارة الخندق. لا يعنيني كثيرا إن كانت إدارة ملفّ الحديبية وحيا يوحى أم تدبيرات نبوية. والرّأي عندي أنّه تدبيرات نبوية تربّعت على عرش الذّكاء السّياسيّ الوقّاد من عقل نبيّ لم تبخل عنه الجبهة العربية نفسها بعنوان الصّدق والأمانة طيلة أربعة عقود. فكيف وقد تقلّد بعد ذلك وسام النّبوّة؟ لماذا نبخل عنه بأنّه قائد عسكريّ سياسيّ من طينة لا عهد للبشرية بها؟ وثيقة الحديبية وحدها كافية وزيادة شهادة على ذلك. وفي إثر ذلك التّدبير الموغل في الرّجحان والحصافة نزل الوحي وهو يخلع عليه عنوان الفتح المبين. أيّ فتح والمسلمون أعيدوا من حيث جاؤوا ولم يكحّل المهاجرون منهم أعينهم بأطلال مهدهم؟ أيّ فتح والقارئ المتعجّل لوثيقة المصالحة يرى دنيّة ظاهرة؟ أليس عليه (عليه السّلام) ألاّ يحول دون مرتدّ عنه إلى قريش؟ أليس عليه ألاّ يستقبل مؤمنا جديدا فارّا إليه من فتنة قريش؟ لا أستطيع خلاصة من ذلك إلاّ أن أضيف إلى علمي لبنة جديدة عزيزة محكمة هي: كلّ علم شرعيّ لا يرتقي إلى موقف شرعيّ استقراء لموازين العمران والاجتماع من مصالح ومفاسد هو علم فاسد لا ينفع بل يضرّ. فساد العلم معناه فساد منهاج صاحبه في توظيفه وتصريفه. بتعبيرنا المعاصر: فتحت مكّة بالقوّة يوم أحسن (عليه السّلام) قراءة المشهد الدّوليّ النّافذ. فعلّمنا أنّ الفتح الذي يعقبه النّصر إنّما هو فتح حقوق الانتماء والولاء في وجه كلّ إنسان دون خوف من أيّ إكراه. ثمّ يتنزّل الوحي ليعلّمنا أنّ الفتح في القاموس الإسلاميّ يعني هدم حواجز الخوف واندياح الحرّيات وفق قوله سبحانه (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر). وأنّ الفتح هو فتح طريق الحوار. وأنّ كلّ فتح بهذا المعنى معقوب بنصر فوق الأرض. لذلك توسّع الوحي في ثقافة الفتح وفقه الحوار في سورة الفتح ولم يفعل مثل ذلك في النّصر. لأنّ النّصر ثمرة لفتح. السؤال المعاصر المحرج هو : أنّى لنا بنصر ونحن غير واعين بضرورة فتح سابق له؟ خلاصة إذن: فتحت مكّة بالقوّة يوم الأحزاب أوّلا ثمّ يوم الحديبية ثانيا.

بخزاعة فتحت مكّة:

خزاعة التي أحسنت قراءة التّوازنات الدولية في الحديبية وانتمت سياسيا وعسكريا إلى أمّة الإسلام (في فارقة مغامرة غير معهودة ولكنّها محسوبة) كانت هي السّبب المباشر في فتح مكّة. إذ استنجدت بحليفها محمّد (عليه السّلام) لمّا تعرّضت لعدوان أحمق من قريش. وكذلك ترتّب أقدار الله الغلاّبة الماضية تدبيراتها: يُسدّد (عليه السّلام) في إدارة مرحلة مدنية ملغومة من كلّ الجوانب والجهات تسديدا عسكريا وسياسيا. وتتراكم حماقات قريش لتكون في نهاية المطاف عدوانا على حليف لمن وقّعت معه قبيل شهور فحسب مصالحة لعشر سنوات كاملات. وتكون الفرصة مواتية لتأديب قريش التي أثخنتها الحروب الفاشلة. وكان فتح مكّة باستسلام جامع من قريش التي تقود الأمّة العربية. لا أجد عبرة أعظم من هذه (ومن يتّق الله يجعل له مخرجا). هو قانون مطّرد لا يتخلّف. ومن التّقوى الاستقامة للعهود ورعاية المواثيق. ويتحقّق وعده سبحانه إيّاه في الرّؤيا ويدخل المسجد الحرام آمنا. ولو دخله في الحديبية ولمّا يتزيّل المؤمن عن المشرك لكانت فتنة. هي تدبيرات قدرية وترتيبات من الذي يعلم سبحانه. ولكلّ أمر أوانه الأنسب لولا الاستعجال البشريّ. فتحت مكّة بداية بتقهقر الجبهة العربية وبإدارة نبوية حسنة للحديبية ثمّ بوفائه لعهده مع قبيلة مشركة هي خزاعة. وبحماقة قرشية سرعان ما انهارت بها الهدنة من سنين عشر إلى عامين فحسب.

خلاصة :

ما توسّع الوحي في كلّ ذلك عدا ليكون لنا نحن اليوم من ذلك منهاج قوامه أنّ فتح قنوات الحوار أسبق من النّصر. وأنّ الفتح عند الله أعظم من النّصر. الفتح يدوم والنّصر قد يتعرّض إلى عواصف. منهاج قوامه أنّه علينا تقوى الله تقوى سياسية وعسكرية. إذ لم يتردّد الوحي نفسه في التّصريح بأنّ رعاية قوانين السياسة تقوى (فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إنّ الله يحبّ المتقين). أمّا تقوى الله خلاصا فرديا فحسب بلزوم العبادات وشعائرها وبعض شؤون الأسرة فهي تقوى مغشوشة. منهاج قوامه حسن قراءة المشهد الدّوليّ وحسن تقدير مكوّناته قوّة وضعفا. منهاج قوامه أنّه عندما تكون أرصدة الإسلام في ارتفاع فإنّه علينا تضييق مساحات (الجهاد الفرضويّ) الذي يحمل سمّه النّاقع في دسمه المغري. وتوسيع دوائر التّحرّر والانعتاق والحوار والتّعريف بالإسلام. لا بفرقه ومذاهبه وتيّاراته. منهاج قوامه أنّه لا فتح ولا نصر قبل أن يعود صفّنا الإسلاميّ صفّا واحدا حتّى وهو متنوّع كلّ التنوّع. إرادة ربانية. وليس شغبا منّا. منهاج قوامه فقه سياسيّ معياره المصلحة والمفسدة وليس الحلال والحرام (تحالفه عليه السّلام مع خزاعة لتمزيق الجبهة العربية هو مثال واحد من أمثلة كثيرة). منهاج قوامه الاطمئنان العقديّ على ما نكره. والإيمان كلّ الإيمان بأنّه سبحانه يعلم ونحن لا نعلم. وأنّه لن يطلعنا على الغيب. وأنّه لا فتح ولا نصر حتّى نفتح قلوبنا وعقولنا معا (أجل. معا) للوحي فهما. وليس تباريا في حسن الصّوت فحسب. وحتّى نفتح صدورنا لبعضنا بعضنا حوارا عاقبته ليست إلغاء المختلفات بل شدّ الصفّ ونسج عرى التّآخي. ولولا ذلك المنهاج الذي يحقّق لنا فتحا ثمّ نصرا بإذنه سبحانه ما كان الوحي ليسجّل الحديبية وقبلها الأحزاب ويتوسّع فيهما. ولم يكن ذلك مطلقا لإحسان التّلاوة تعاويذ تقشعرّ منها الجلود والقلوب لاهية عن معانيها والعقول غافلة عن رسالتها. بكلمة واحدة لا ثاني لها: لا فتح ولا نصر حتّى نقرأ القرآن لأجل معالجة تحدياتنا نحن وعلى رأسها المقاومة لتحرير القدس السّليب. ولا فتح ولا نصر حتّى نستنير بالمنهاج النّبويّ في إدارة المعركة مع الجبهة العربية والإسرائيلية والرومية وجبهة النّفاق. مكّتنا المعاصرة التي علينا عبء تحريرها وفتحها هي شقيقة مكّة التي فتحها عليه السّلام. هما شقيقتان صنويان: شقّة في الحرمة وكلاهما محرّم. وشقّة في العبادة وكلاهما مثابة عبادة (تلك بمائة ألف صلاة وهذه بخمسمائة صلاة). أمّا الدّموع التي تذرف حول الكعبة البيت الحرام ولا تتمعّر وجوهها وهي ترى الصّلف الصهيونيّ والنّفاق العربيّ فهي دموع قُدّت من التّماسيح. القدس آية من آيات الكتاب ومن ضيّعها فقد ضيّع الكتاب. كذلك قال أحد المصلحين قبل عقود.

بقلم الشيخ: الهادي بريك