ظهر الفساد في البرّ والبحر بما كسبت أيدي النّاس | من سنن الله في النّفس والحياة

الشيخ الهادي بريك

الشيخ الهادي بريك

 ورد هذا القانون في سورة الرّوم المكية. هو قانون عمرانيّ اجتماعي عامّ لا يخصّ قوما دون غيرهم ولا زمانا دون زمان. هو قانون صارم مطّرد يفرض سلطانه على المؤمنين وعلى الكافرين سواء بسواء. نصّ القانون هو (ظهر الفساد في البرّ والبحر بما كسبت أيدي النّاس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلّهم يرجعون). الفساد عادة ما يرد في الكتاب العزيز بمعنى العدوان على الإنسان أبشارا وأموالا وأعراضا. هو شبيه بما أسمته سورة المائدة المدنية حرابة. هذا مفهوم بسبب أنّ العدوان على الإنسان الذي أوكلت إليه مهمّة عمارة الأرض هو عدوان على إرادة الله نفسه سبحانه.

هو تعويق لوسيلة الإعمار ولغايتها كذلك. إهلاك الإنسان بغير حقّ وإهلاك حرثه وكسبه وتعويق حرّيته وتهديد حرمته وغير ذلك كلّه فساد بالمنطوق القرآنيّ. والحديث هنا عن ظهور الفساد أي تبرّجه وعلوّه وعمله بحرّية وإستعلان. الفساد لا يجتثّ من الأرض بالكلّية ولكنّ استعلاءه واستعلانه هو المشكلة بسبب أنّه يبثّ الخوف وينثر الفزع ويعوّق العمارة. ومن ذا تأسن الحياة. ولذلك جاء التّهديد في الحديث النّبويّ ضدّ المجاهرين بالفساد والمعاصي أكثر من الفاعلين لها مستترين. أمّا قوله (في البرّ والبحر) فالأغلب أنّه يقصد به علوّ ذلك الفساد وانتشاره. كمثل قوله مرّات كثيرات (ما بين أيديهم وما خلفهم) إذ المقصود هنا وهناك الشّمول وليس الجهة. إذ ليس هناك في المكان عدا البرّ أو البحر. وما يظنّ أنّه جوّ هو في الحقيقة برّ. لأنّه دائر في فلك القشرة المحيطة بالأرض. الباء هنا سببية ليكون أصل الكلام: بسبب ما كسبت أيدي النّاس. وهي جزائية كذلك ليكون المعنى : جزاء بما كسبت أيدي النّاس. ولم يتردّد القرآن الكريم في النّصّ على المقصد الأسنى من ظهور هذا الفساد الذي هو بسبب كسب النّاس أنفسهم وهو قوله سبحانه (ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلّهم يرجعون). إذ عندما يذوق النّاس عاقبة فسادهم ومرارة الفساد الذي أصابهم يكون ذلك رادعا لهم وزاجرا فتتحرّك فيهم إرادة الرّجوع إلى طريق الصّلاح.  وقوله (ليذيقهم) مجاز يغلب أن يكون نكاية. هو قانون صارم مطّرد يشكّل دورة حضارية متعاقبة قوامها أنّ الله سبحانه يرسل الرّسل لهداية النّاس. فإذا فاؤوا أغدق عليهم بالطّيبات. وإذا فسقوا أمدّ لهم في فسقهم واستدرجهم في فسادهم حتّى يكون ظاهرا مستعليا مستعلنا متوسّعا ليصيب مساحات واسعة منهم ويفرض عليهم حالات شديدة من الاختناق ممّا يدفع المصلحين منهم إلى مباشرة دورة إصلاحية جديدة في إثر النّبوّة.

ومن ذا يكون رجوع إلى الله سبحانه بسبب ما أذيقوا من ويلات الفساد المستعلن. وليس هذا خاصّا بالمسلمين. إذ تتعرّض الأمم الأخرى إلى مثل هذا. كما وقع في أوروبا قبل عقود طويلات. إذ عربدت الكنيسة المتحالفة مع رأس المال الفاجر والقيصرية الماجنة. فلمّا أضحى ذلك غير مطيق هرع المصلحون إلى الإصلاح. فكانت ثورة جاءت بحدود دنيا من كرامة الإنسان ولجم الكنيسة الغاشمة. فيما أظنّ سيكون مثل ذلك بشكل ما عندما تتقدّم دعوات المثلية الجنسية وإشاعة الحرّيات الجنسية غير منضبطة حتّى بقيود الفطرة ـ وليس الدّين ـ. أظنّ أنّ ما يحيق بالأسرة الأوربية اليوم مقدّمة لمثل ذلك. ذلك أنّ الأسرة محطّة من محطّات إنفاذ الله سبحانه لإرادته. فإذا تعرّضت تلك المحطّة إلى ما يشبه الفناء الكامل فإنّ فسادا ما سيظهر بما كسبت أيدي النّاس الذين تمرّدوا على وظائفهم الإنسانية وجبلاّتهم البشرية بما يدفعهم إلى مراجعة أنفسهم. من لطف الله سبحانه أنّه لا يدع النّاس في غمرة ـ حتّى بعد انقضاء زمن النّبوّات ـ بدون حدود. إذ ينذرهم بفساد مستعل مستعلن يحوّل حياتهم إلى جحيم بسبب ما اقترفت أيديهم ليذيقهم

غلوّهم وليهبّ المصلحون منهم إلى إنقاذ الحياة من ذلك الجحيم. وبما أنّ الدنيا دار عمل لا دار جزاء فإنّه سبحانه قال (ليذيقهم بعض الذي عملوا). بعضه فحسب. وهذا متوافق مع قوله سبحانه (ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك على ظهرها من دابّة).  والله أعلم

ومن كلّ شيء خلقنا زوجين

ورد هذا القانون في سورة الذاريات المكية (ومن كلّ شيء خلقنا زوجين لعلّكم تذكّرون). وهو القانون ذاته الذي سار عليه نوح عليه السّلام وهو يملأ سفينته بزوجين من كلّ شيء. يسمّى قانون الزّوجية أو سنّة الازدواج. وله علاقة وطيدة بسنّة التنوّع أو الاختلاف الواردة في مواضع أخرى. أو ناموس التّعدّد. لا مشاحّة في المصطلح إذن. ناهيك أنّه سبحانه ـ وكما هو في اللّسان العربيّ القحّ ـ لم يؤنّث كلمة زوج. وذلك حتّى يكون التّطابق بين الزّوجين ـ سيما في الدّائرة الإنسانية ـ أكثر. فلا زوج بلا زوجه. ولا يكون الزّوج إلا بزوجه. المقصد الأسنى من هذا القانون هو الدّلالة العقلية المنطقية الصّارمة على أنّ كلّ شيء يتزوّج ويتعدّد ويتنوّع ويختلف إلاّ الله وحده سبحانه. فهو أحد فرد صمد ليس كمثله شيء. ذلك هو المقصد الأسنى. لأنّ الهدف الأعلى من القرآن الكريم هو تعريف النّاس كلّهم بربّهم الحقّ لإزالة كلّ صور الشّرك الغابرة والحاضرة. وإلاّ فإنّ العقل كفيل ـ بإذن ربّه سبحانه ـ بالكشف عن هذا القانون سيما عندما يتقدّم العلم وتنداح المعارف. ولكن بادر القرآن الكريم به خدمة لمقصده الأسنى. أي تعريف النّاس بربّهم الحقّ أنّه أحد فرد صمد لا تجري عليه ما يجري على الأشياء. ومن ذا يعظّمونه ويوحّدونه ويعبدونه عبادة خالصة. ولكن قليلا ما تجد من يثير هذا المقصد الأسنى من هذا القانون. إذ يذهب كلّهم تقريبا ـ إلا قليلا ـ إلى بيان منافع الزّوجية قانونا ومصالح الازدواج والتنوّع والتعدّد والاختلاف ناموسا. هذا مقصد ثان لا أوّل. هذا مقصد عمليّ لا عقديّ. هذا مقصد يمكن الكشف عنه عقلا. أمّا المقصد الأوّل فلا بدّ فيه من وحي سماويّ ثابت صحيح. خلق سبحانه كلّ شيء طرّا مطلقا ودون أيّ استثناء على أساس الزّوجية والازدواج الذي يعني القيم التّالية: قيمة الاشتراك في المصدرية الخلقية إذ كلّ شيء منه سبحانه. قيمة الاختلاف تنوّعا وتعدّدا وإزدواجا في بعض الوظائف والصّفات والأعراض.

قيمة التّكامل المراد من تعالج تينك القيمتين الأوليين. أي قيمة الاشتراك وقيمة الاختلاف. تلك هي أمّ الفلسفة الإسلامية في الوجود والكون والحياة. من يبدأ معرفته الإسلامية وفقهه النّظريّ من تلك البداية فلن يضلّ بإذن الله سبحانه. لأنّه أمسك بالبوصلة الفكرية العليا التي تبيّن له معاني الاختلاف ومعاني الاشتراك ومعاني التّكامل. ولكنّ الله سبحانه أراد قانون الاختلاف بغاية الابتلاء ولذلك قال سبحانه (ولو شاء ربّك لجعل النّاس أمّة واحدة. ولا يزالون مختلفين إلاّ من رحم ربّك ولذلك خلقهم). هو شيّد كونه وخلقه واجتماع عباده على قانون الزّوجية بغرض الابتلاء والتّدافع بينهم حتّى يكون الكون كلّه حديقة غنّاء فيها كلّ الألوان والأصوات والرّوائح. إذ لو كان الأمر غير كذلك لما كان معنى للابتلاء والتّدافع. ولأسنت الحياة أسونا. ومات الفعل. هي حكمة بالغة. عدا أنّه قليل جدّا ـ ومن المسلمين أنفسهم إلاّ في أزمنة قليلة لا تكاد تذكر ـ من النّاس من يفقه هذا القانون حقّ الفقه. وأقلّ من أولئك هم من فقه القانون علميا ومعرفيا حقّ الفقه. ولكنّه في الممارسة يقترف أسوأها. إذ يتّجه في الاتجاه المضادّ لهذا القانون. القيمة العظمى التي يدندن حولها الكون كلّه شرقا وغربا وباسمها تذبح شعوب ذبحا وتسلخ أمم سلخا أي قيمة الدّيمقراطية لا مشروعية لها إلاّ من هذا القانون. لو كنّا نعلم. لا أمل في أن يكون المرء ـ بغضّ النّظر عن دينه ـ ديمقراطيا بمعنى أنّه يرعى الاختلاف ويعتبر التنوّع وينسجم معه بدون سحق ولا محق ولا حتّى ضيق حتّى يتشبّع بقيمة الازدواج تشبّعا معرفيا صحيحا ثمّ ينضبط لذلك انضباطا يحتاج إلى معركة هادرة مع نفسه الأمّارة بسوء الاستبداد واسترقاق الآخرين واستعبادهم. ولكن النّفاق جهنم هذه الحياة الدّنيا. فهو لا يدع مجالا لعقل أن يتعلّم أو لنفس أن تتهذّب. النّاس كلّهم وبغضّ النّظر عن دينهم بحاجة ماسّة مؤكّدة إلى حسن تمثل قانون الزّوجية علما وعملا معا. ويحتاج الأمر علما إلى دقائق معدودات. ولكنّه يحتاج إلى جبال من الصّبر لضبط النّفس عليه.

لن أتردّد يوما في القول أنّ المسلمين الذين هم أولى النّاس بهذا القانون الأعظم فشلوا فشلا ذريعا في تاريخهم وحاضرهم في استيعاب هذه السنّة. وخاصّة في تمثّلها عملا إلاّ في عقود قصيرات من بعد موته عليه السّلام. ومن ذا أوصى الإسلام بالتّعارف المتبادل المشترك بين النّاس المختلفين. وجعل اسم الأسرة زواجا. لأنّه تزاوج بين مشتركين في الأصل مختلفين في بعض الوظائف عملا وليكون من ذلك تكافل بين الزّوجين. فلا يطغى مشترك على مختلف. ولا يسطو مختلف على مشترك