رمضان موسم إصلاح وترشيد

يأتي رمضان المبارك شهراً كاملاً في كلِّ عام، محمّلاً بمخزونات ثمينة لا تصحّ الغفلةُ عنها في الإصلاح والترشيد، وإحياء القيم النبيلة وتَمَثُّل المعاني السامية. إنّ رمضان موسم متعدِّد المكاسب، فالشهر المبارك موسم علم وعمل، وعبادة وإحسان، وتأمُّل وتفكُّر، وتواصُل وتراحُم.

تُدرِك المجتمعات الحديثة فرصاً كامنة في المواسم والمناسبات، فتستثمرها وتفتعل مزيداً منها؛ للاحتفاء بقيم، وترسيخ مبادئ، واجتثاث آفات، أو إنعاش سوق، ولمقاصد أخرى تتعدّد. لكنّ موسم رمضان يتألّق في الواقع الإنساني بامتياز عَزَّ نظيرُه؛ فهو يخالج الإنسانَ في أعماقه، وتنتظم فيه الحياة اليومية على غير المعهود شهراً بحياله، في مدرسة تربوية وسلوكية واجتماعية تجدِّد للمجتمع روحَه وترجِّح بها توازنه وتوثِّق عُراه وتُحرِّره من أدرانه.

يحمل رمضان المبارك من تلقائه فرصاً هائلة إلى المجتمعات، تنوءُ بمثلها حملاتٌ واسعة وجهود مُضنية في الإرشاد والتوعية والإصلاح، تُفتَعل لها مناسبات، وتُستحدَث لها أعياد، وتُحشد فيها موارد صوب أهداف محدّدة، دون أن يتأتّى لها وازع يكافئ ما يحرِّك المؤمنين من تلقائهم في شهر الصِّيام. لا يُسفِر هذا الشهر عن مكنوناته الزاخرة بإقامة الشعائر في عزلة عن الحياة أو انكفاء عن المجتمع، فرسالة رمضان المبارك تُهيِّئ الأسباب لانتظام الحياة ذاتها بمعايير الصلاح والاستقامة في الأمور كلِّها؛ من قوْلٍ وعملٍ، وفكر ومقصد.

يعود هذا الموسم في كلِّ عام في دورة إنعاشٍ للأرواح، وربيع متجدِّد للمجتمعات، تُحفِّز الأذهانَ المتفتِّحة على إعادة اكتشاف رمضان من وجوه متعدِّدة لا ينقطع النور والخير والبركة فيها. إنها خبرةٌ متجدِّدة لا تتأتّى لمن يريدونَه موسمَ طقوسٍ مجرّداً من الرُّوح، أو تقاليدَ شكلية ترضخ للواقع، أو شعاراتٍ جوفاءَ تقعد عن الإصلاح، أو موسمَ استهلاكٍ جامح وترفيهٍ متضخِّم.

تنفتح للإنسان في شهر الصّوْم آفاقُ عُلوية حجبتها غشاوةُ الحياة اليومية وانشغالاتُها الأرضية، ومن شأن هذا التشوُّف السامي أن يُهيِّئ الإنسان الحائر لإدراك الوجود، والإقرار بحقائِقِه الكبرى بمنظور إيمانيّ يتجاوز تموضُعاً أرضيًّا محدوداً، ضمن كوْن يَعجَز وعيُ البشر عن الإلمام بأطرافه القاصية، أو استيعاب معادلاتِ انتظامه المعقَّدة. وإن لم يرتفع الإنسانُ ببصره، فإنّ الواقع الأرضيّ من حوله كتابٌ مفتوح للتفكّر والاكتشاف المذهل، إنْ في النظرة الإجمالية، أم في التدقيق التفصيلي: “وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ” [الذاريات: 20]. أمّا الصوم عيْنُه، فيتفاعل في بَدَن الإنسان الذي يختزن أسراراً مستعصية على الأفهام حتى في زمن الفتوح العلمية العظيمة، فالإنسان كوْنٌ مصغَّر ينتظم بدقّة مُعجِزة تدلّ على اللطيف الخبير: “وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ” [الذاريات: 21].

ثمّ إنّ رمضان مدرسةٌ نبيلة في الصبر والاحتمال، تتربّى فيها المجتمعات على قوّة الإرادة، والقدرة على التحكُّم، بما يُرَشِّد الحرية ويضبطها بالمسؤولية، ويسعفها في الكفّ عن الاغتراف المتواصل من دنيا زائلة والتعلق بحطامها. وفي مدى هذا الشهر العظيم فرصة استدراكٍ بعد زللٍ، ونافذة تحرّر من ثقافة استهلاك جارفة. يخطئ من يَقيس الجدوى بمدى التقليل من منسوب الطعام والشراب على مدار شهر الصيام؛ فالجدوى تتجلّى أساساً في التحرّر من التثاقل إلى الأرض؛ والاقتدار على ضبط الرغبات، والتحكّم في الانفعالات، والإمساك بالزمام، فيتحكّم الإنسان بشهواته، ويضبطها بدل اتِّباعها وانقياده لها.

وفي رمضان، رسالة تآخٍ وتلاقٍ بين البشر، بما تجسِّده من وَحدة حالٍ في الاصطبار والاحتمال، والارتواء والقيام، أو وَحدة وجدان في العواطف والمشاعر والانفعالات. إنها مدرسةٌ للغنيّ والفقير، يتكافأ فيها البشر على تعدّد ألوانهم وهيئاتهم، ومواطنهم وطبقاتهم. ولا يكتمل الدرس دون سَعي إلى التكامل وردم الفجوة عبر عطاء يُدفَع به إلى من يحتاجه، من وجوه إنفاق مفروضة، لا مِنّة فيها ولا أذى، وأبواب تنافس مرغوبة في وجوه الخير والتضامن.

وفي رمضان فرص التقاءٍ ومعايشة وسلام، في مجتمعاتٍ تتنوّع طوائفها وتتعدّد ثقافاتها، ومن شأن هذا أن يُعين المجتمعات على احتواء الأزمات، وإزاحة الحواجز، وتجاوز القوالب النمطية الساذجة، والأحكام المُسبقة المضلِّلة، التي تُستغَلّ في إثارة الأحقاد وبعث الضغائن.

ما أحوج الناس إلى رمضان المبارك، وأن يُدرِكوا ما في هذا الموسم العظيم من فضائل لا تَنضب.. وكيف للحياة أن تستقيم بدونها؟!

المقالات المنشورة بالموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي المجلس الأوروبي للأئمة