رمضان مناسبة للفحص الفني الجامع

الإسلام كما هو معلوم حِكَم وأحكام وكذا تشريعاته وتعليماته، مما لا مناص اليوم من إبرازه من لدن الخطباء والأئمة، فيما أظن، هو استخلاص الحِكم والعبر من تلك التشريعات في مختلف الحقول والمجالات ذلك أن من أسباب تأخرنا، وهي كثيرة مُعقدة، أن أكثرنا عكف على الأحكام مباني وصورا وأشكالا ومقولات غافلا عن الحكم والمعاني والأسرار والمقاصد والمرادات.

ألم يؤسس حجة الإسلام الغزالي عليه الرحمة مشروعه في آخر حياته «إحياء علوم الدين» بسبب ما رآه من غفلة من الناس عن تلك الحكم الكفيلة بتدين متجدد لذيذ؟ لذلك ألّف كتابه الذي كان سيكون مقدمة مثل مقدمة ابن خلدون في علم الاجتماع لذلك المشروع الإحيائي الكبير.

مما ورد في الاعتكاف في الصحيحين وغيرهما أنه كان صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان، إلاّ في رمضان الذي مات بعده صلى الله عليه وسلم فإنه اعتكف العشرين يوما الأخيرة منه، كما اعتكف نساؤه من بعده عليهن الرضوان، وبذا كان الاعتكاف سنة نبوية معلومة ولئن اختلف العلماء كثيرا في كثير من أحكامه العملية فإن المؤكد أن حكمها أعظم وأكبر لمن يريد اجتناء العسل المصفى واجتباء الرحيق من أمه.

 تدبرت في هذه العبادة فتراءى لي أنها فرصة مناسبة في كل رمضان لإجراء فحص فني شامل جامع من الإنسان على نفسه وجهازه المعنوي وذلك كما يفعل بسيارته أن تكون مؤهلة للعطب فلا تحمله فيما بقي من الأيام أو تجرّ على مستعملي الطريق متاعب.

أظن أن الحكمة العظمى من عبادة الاعتكاف هي الاختلاء بالنفس في زمن معين محدد لمحاسبتها عن عام مضى وتأهيلها لعام أتى، أو ليست الركعات والسجدات وما فيهن وما بينهن من تلاوات متدبرة متأنية خاشعة كفيلة بزاد خصيب من التقوى، أليست هي مناسبة لشحن النفس كما يشحن الواحد منا هاتفه أو أي آلة كهربائية أن تقعد به فلا يستطيع استخدامها؟

أظن أن الحكمة الكبرى من عبادة الاعتكاف هي أن يفعل المرء بنفسه ما يفعل التاجر الحاذق الأريب مع حساباته في آخر كل عام، يكون شحيحا مع نفسه فيضبط بضاعته وأمواله ويحسب ما له عند الناس ومن نجاحات في صفقات سالفة وما عليه لهم وهي عملية يحتاج إليها التاجر ليستأنف رحلة تجارية جديدة، أظن أن المؤمن الذي دعي لأن يكون تاجرا مع ربه سبحانه لهو أحوج إلى ذلك من التاجر نفسه.

أظن أنها مناسبة بل هدية من الرحمان سبحانه إذ يحتاج المرء حتى في اليوم الواحد لخلوة مع نفسه بعيدا عن الضوضاء والضجيج والجلبة، تلك مناسبة لا تفوتنك فاهتبلها وحاسب نفسك بشحّ وأقبل على الله سبحانه لعلك تشحن تلك النفس الأمارة بالسوء بما يحجزها عن ذلك.

كل ما في هذا الدين هدايا ونعم وعطايا لو أحسن المرء استثمارها ولا يحسن ذلك، إلاّ عندما يعي أن الإسلام حِكم وأحكام من أعلى هامته إلى إخمص قدميه.

أظن أننا مقصرون كثيرا في طرح هذا السؤال الكبير الذي به هو وحده نجني رحيق تلك الحكم: لماذا؟ فلا تفوتنك «لماذا» هذه قبل البدء في كل عبادة، سؤال «كيف» مطلوب ولكن تعلم الكيفيات يسير سهل لا يتطلب جهدا كبيرا، ولكن يظل سؤال بمناسبة هذا الوباء جديرا: هل نقيس أنفسنا على المحصر فنعتكف في البيوت إذ حيل بيننا وبين المساجد أم لا؟ لعل العلماء يجيبون أو لعلهم أجابوا.

المقالات المنشورة بالموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي المجلس الأوروبي للأئمة