رمضان في زمن الجائحة

إدارة الإعلام

إدارة الإعلام

حلّ رمضان المبارك بلا مساجد تستقبل المصلِّين، وجاء شهرُ القرآن بلا معتمرين، وانقطع شدّ الرحال فيه إلى المساجد الأساسية في الإسلام. إنها خبرة قاسية عايشناها جميعاً في زمن استثنائي، وأدركت الأمم عبر القارّات والأقاليم مثيلاتها بعد أن توقّفت عجلة الحياة اليومية بإغلاقات صارمة اقتضتها الأولوية الصحية في زمن الجائحة.

إنها محنة عظيمة واختبار قاسٍ، لكنّ مدرسة رمضان المبارك تُشرع أبوابها في كلِّ الظروف، فالاقتدار على خوض التجربة يصقل الإنسان ويهيِّئه لمزيد من الارتقاء، فوق صبره واحتسابه.

اجتمع موسم رمضان الاستثنائي مع ظرف الإغلاق الشامل، فصار الاختبار أن نجهد في الارتقاء ونحن في قعر المحنة؛ أن نسعى إلى تقارب الوجدان رغم تباعد الأبدان؛ أن نَعمُرَ المساجد وهي موصدة قسراً أو متوقِّفة عن الصلوات الجامعة. ألقَت بنا الجائحة في مواجهة التحدِّي؛ وأثقلت كاهلَ كلٍّ منّا بمسؤولية مباشرة لا مناص منها؛ فأنتَ أيها المسلم الإمامُ اليوم لمن حولك، وأنتَ من يقيم الصلاة في بيتك، وأنت من عليك المبادرة في مجتمعك، وأن تلتمس تذكير نفسك بالطاعات وتحفيز غيرك للخيرات.

فتحت الجائحة أفقاً جديداً للتفكّر في سكون العالم، وفي السكون أذهانٌ تتألّق، ووجدانٌ يتحرّك. داهمتنا الجائحة في ذُروة انشغالنا بما في الأيدي من منجزات لم تبلغ البشرية مبلغها من قبل. كانت الأمم مَزهوّةً بتسابقها في اجتياز الفضاء والهبوط على الكواكب واكتساب أسباب القوّة، وتتنافس في التصنيع والترويج والاستهلاك بلا حدٍّ، حتى أبصرنا جميعاً تحت الصدمة حدود قدراتنا في مواجهة كائن مجهري لا نبصره؛ عطّل عالَمنا وأوقف حركتنا، وفرض علينا حظر التجوال، وألزَمنا بخوْض مراجعات عميقة في الحال والمآل.

يساعدنا رمضان على تحرِّي المنحةِ الكامنة في جوْف المحنة، فإنّ شهر الصيام يحمل فرصة إصلاح واستقامة، وينطوي زمن الجائحة على فرصة استدراك وترشيد.

ثمّ إنّ رمضان المبارك يشدّ من عضدنا، فوق هذا، بِزادٍ نحتاجه في مواسم الأزمات؛ مثل الطمأنينة، واليقين، واللجوء إلى الله، والصبر والاحتساب، والتكافل والتراحم، والتفكّر والتأمّل، والسعي والمثابرة باستلهام العون من الله تعالى. وفي زمن الجوائح ضغوطٌ وصدماتٌ تعصف ببعض البشر، أو تدفع بهم إلى شفير القنوط وأُتُونِ الجزع، لكنّ من تربّى في مدرسة رمضان يستلهم العون من الله تعالى مستعيناً بالصبر والصلاة، وقد قال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: “عَجَباً لأمْرِ الْمُؤْمِنِ ! إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لأِحَدٍ إِلاَّ للْمُؤْمِن: إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْراً لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ، فَكَانَ خيْراً لَهُ”. إنّ الصيام اختبارٌ للصبر والمُصابرة، ومن أَمارات الفلاح في هذا الاختبار ألاّ يجزع الإنسان في مواجهة الضُرِّ إنْ مسّه شيء من ذلك في زمن الوباء، لا قدّر الله.

وفي رمضان فُسحةُ تحرّرٍ وانعتاقٍ وارتقاءٍ؛ بأنْ يملِكَ الإنسانُ زِمامَ نفسه كي يرقى بها فوق التثاقل الذميم إلى الأرض، وكي ينعتق من غواية الاستهلاك الجامح المشبّعة بألوان الدُّنيا الزائفة. لعلّنا أدركنا في موسم الجائحة أنّ هوَس الحرص على العلامات التجارية والتباهي بالمُشتريات تَبدَّدَ بين عشيّةٍ وضحاها، في لحظة داهمة تعطّلت فيها طقوس الاستهلاك الاستعراضي تحت صدمة الوباء المستشري. اكتشف البشر يومها أولويةَ الوقاية والنجاة، واستولت عليهم الخشية من انقطاع الأنفاس في أروقة الطوارئ المكتظة بالذاهلين. كانت خبرةً عميقة ولا زالت ذيولها حاضرة، وإن غفل كثير من الناس عن عِظاتِها بعد أن اجتازوا لحظة الهلع.

سيبقى موسم كورونا درساً قاسياً في تاريخ البشر؛ انقشعت فيه أوهام الفردوس الأرضي، وفتح عيوننا على عوالم تخالطنا وكائنات دقيقة تجري منّا مجرى الأنفاس دون أن نكترث بها؛ رغم أنّ بعضها مؤهّل – بإذن الله – لأن يُرغِم كبرياءنا، وأن يُقِضَّ مضاجعنا، وأن يعطِّل مدنيّتنا الحديثة .. بعد أن حسب بعضنا أنها بلغت نهاية التاريخ.

إنّ في ذلك لآية .. أن يُعجزنا كائنٌ ضعيفٌ غير مرئيٍّ عن آخِرِنا. والعبرةُ أنّ موسم كورونا كان ولا زال، كتاباً مفتوحاً للبشرية كي تتفكّر في كائناتٍ دقيقة من حولها بما يتجاوز مؤشرات الجائحة النمطية؛ هي عبرة لقوم يتفكّرون في ذرّة، أو في مثقال حبّة من خردل، أو في بعوضة فما فوقها، أو في ذُبابٍ يُعجِز البشرَ رغم ضعفه: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ ۚ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ ۖ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ۚ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ” [الحج: 73].