رمضان في زمن التشبيك، والأجهزة المحمولة

إدارة الإعلام

إدارة الإعلام

كانت إدارات المساجد والمراكز الإسلامية في الديار الأوروبية، قبل عقود مضت، تنشغل بالردّ على اتصالات هاتفية أرضية لا تنقطع من مجتمعاتها المحلِّية المسلمة قبيل دخول شهر الصيام، وقبيل إتمامه، للاستفسار عن تحرِّي الهلال وبداية الشهر وانتهائه. كان المسجد أو المركز يمثِّل مركز الإرشاد الديني غالباً في العديد من المجتمعات المحلية المسلمة في أوروبا. لكنّ مركزية التلقِّي والتلقين شهدت تحوّلات جوهرية من بعد. فالجمهور الذي صار يحصل على المعلومة ذاتها عبر قنوات فضائية، ثم من خلال الشبكات ومنصّات التواصل، اقتدر تقريباً على تجاوز قسط وافر من الدور الإرشادي الوسيط للمسجد أو المركز الإسلامي في بعض المجالات، وإن تعدّدت الحالات والوقائع بطبيعة الحال ضمن المشهد المتنوّع لمسلمي أوروبا. يمكن اختبار هذا التحوّل في مسألة الفتاوى مثلاً، والدروس الإرشادية والوعظية أيضاً، التي تنفتح على خيارات متجاوزة للمكان والبيئة المحلية.

لهذا التحوّل مَظاهِرُه في العالم الإسلامي عموماً، فلا تُطلَب “الفتوى” من “علماء البلد” وحدَهم، بل يبحث بعضهم عن مُفتٍ مرغوب أو حتى عن فتوى مفضّلة، كحالِ خُطب جُمَعية ودروس وعظية يواكبها المهتمّون حسب تفضيلاتهم في الشاشات والشبكات دون اعتبار مَنشئِها المكاني تقريباً؛ ومن شأن هذا أن يضغط على البنى القِيَميّة والاختيارات الجامعة على نحو يحاكي الافتراق في أيام الصيام والفطر والأعياد تبعاً لاختلاف الأقوال والتقديرات والمعاينات والحسابات في مسائل المواقيت والأهلّة.

تسارعت التحوّلات التي تشهدها المجتمعات الإنسانية، تفاعلاً مع تطوّراتٍ كبرى في واقع الإعلام والاتصال والتشبيك والتقنيات. يتلقّى الجمهور اليوم مزيداً من المضامين من مصادر أكثر تنوّعاً، وبصفة متجاوزة للمكان كما لم يحدث من قبل، وصار الجمهور شريكاً في إنتاج المحتوى وتبادله عبر الشبكات الاجتماعية وتطبيقات التواصل. تعود هذه الحالة على المجتمعات بمكاسبَ وفُرصٍ وتفرض تحدِّيات أيضاً.

أدّت انسيابية المحتوى وتمدُّده عبر أوعية التواصل والإعلام والثقافة إلى تخطّي دور المؤسسة والمعلِّم، والمرشد والمربِّي والواعظ، وحتى الأسرة ذاتها. ومع تنامي خيارات التلقين والتلقِّي الذاتي لدى الجمهور؛ قد يستشعر الفرد فرصَته في الاستغناء عن وسطاء العلم والإرشاد والوعظ والتوجيه المباشرين في محيطه، وقد يزهد بهم أو يتعالى عليهم؛ ليلتحق بمن يراهم أجدر بالأخذ عنهم أو الانضمام إليهم بصفة غير مباشرة ينشأ معها نمط جديد من وشائج الرعاية والإلهام والتأسِّي، أو آصرة “الشيخ والمُريد”؛ نمط يقوم على الافتراق المكاني والنجومية المرئية مع التعالي على مراكز التوجيه التقليدية في مجتمعه.

تتعاظم خيارات الضخّ التواصلي؛ فعلاوة على تزاحم آلاف القنوات على الشاشة الرقمية؛ تتمدّد الشبكات بصفة هائلة شكلاً ومحتوى، وتضمّ في ذاتها تناقضاتٍ وتجاذباتٍ تستبطن التنوّع وتحفل بالاستقطابات، كما يتّضح، مثلاً، في وفرة هائلة من الإرشادات والفتاوى المتعدِّدة أو المتعارضة في كثير من المسائل، والتي يبعث بعضها على التِّيه والاضطراب بالنسبة لجمهور غير متخصِّص أو لا يملك أداة التمحيص.

كان الجمهور المسلم، أو بعضه بالأحرى، يسعى إلى المسجد القريب طلباً للإرشاد، وصار على إدارة المسجد أن تُولِي عنايةً خاصةً للوصول إلى الجمهور حيث هو، عبر ما يتوفّر لها من خيارات التواصل. تبقى وسيلة التواصل ذاتها فرصة أيضاً لتحقيق حالة مواكبة ومعايشة بين المسجد ومجتمعه المحلي، وما يتجاوزه أيضاً. فالمغزى هنا؛ أولوية الوصول إلى الجمهور بدل الاكتفاء بانتظاره.

وكما لا يصحّ بمؤسسات المجتمع ومرافقه أن تبقى على ما كانت عليه قبل عقود؛ فإنّ دور المسجد في مجتمعه يتجاوز الحضور المكاني المتمثِّل في دخول الجمهور أروقته الطاهرة. يجدُر مراعاة هذا المطلب، بالأحرى، في تواصل المسجد والمركز الإسلامي مع المجتمع عموماً على تنوّع مكوِّناته في المعتقدات والمشارب والأوساط والشرائح.

إنّ اتِّساع آفاق التلقِّي المتاحة للجمهور في المجتمع المسلم المحلي، يقتضي من الإمام والخطيب ومن القائمين على جهود الإرشاد والتعليم والتثقيف ضمن المساجد والمراكز الإسلامية في أوروبا العناية المتزايدة بالجودة والتميّز، إن أرادوا اجتذاب الجمهور وتعميم النفع في فضاء تواصلي متزاحم. ويفرض هذا، بطبيعة الحال، التزامات مضاعفة في المسؤولية عن المحتوى والأداء والتعبيرات. لا يقضي هذا بالاكتفاء بواسطة البث الشبكي للدروس المسجدية في هيئتها الأولى مثلاً، لأنّ الفرص المتاحة أوسع من هذا وأرحب، وتنويع أنماط المادة الإرشادية وقوالبها حاجةٌ يمليها الواقع التواصلي المتجدِّد. قد يتحقّق القياس الميسّر لأداء إدارة المسجد في هذا الشأن بالنظر إلى منسوب المخاطبة المجتمعية القائمة في مرافق المجتمع الأخرى وهيئاته على تنوّعها، مع تحفيز الأخذ بما يستجدّ من خبرات وفنون في هذا الباب. من الخطأ الاقتصار في هذا المقام على تطوير الأدوات التقنية وإعفاء مضامين الخطاب وكيفيات المخاطبة من التمحيص والتحسين والمعالجة الحكيمة.

قد يشقّ المسعى على إدارة المسجد إن لم تجد ما يُسعفها من الخبرات والموارد اللازمة لبعض هذا، لكنّ فرصتها المؤكدة تتمثّل في إدماج جمهورها في إنتاج المحتوى وتطويره وتبادله. إنّ ضمان تفاعل الجمهور، المباشر منه وغير المباشر، كفيل – بعون الله – بإحداث نقطة تحوّل أو قفزات نوعية في الجهود التواصلية للمسجد والمركز في زمن التشبيك والأجهزة المحمولة. إنّ “المسجد الافتراضي” – إن جاز التعبير – يتيح معايشة واقعية أيضاً؛ بما يتأتّى له من اقتدار على بلوغ أوساط لم يكن منبر المسجد ببالغها من قبل.

ومن مقوِّمات الامتياز أن تتهيّأ للمسجد شراكاتٌ وأواصر يتعاون فيها مع مساجد ومراكز وهيئات وجمعيات وتشكيلات مجتمعية من المسلمين وغير المسلمين، تلتقي على كلمة سواء، ولا شكّ أن موسم رمضان المبارك يختزن فرصاً واعدة ومتجدِّدة في هذا الحقل.

غنيّ عن البيان أنّ موسم رمضان المبارك واقع يتجلّى في الشبكات الاجتماعية وتطبيقات التواصل أيضاً، ومن شأن هذا أن يُنعِش النشاطات المسجدية التي تسعى على بصيرة إلى معايشة الشهر الفضيل في أوساط المسلمين وغيرهم. يَسَعُ المساجدَ والمراكزَ الإسلاميةَ، مثلاً، أن تُطلق مسابقات تشجِّع الجمهور على التعبير عن الرُّوح المتألِّقة والرسائل النبيلة والقيم السامية التي يجدونها في أيام رمضان ولياليه، بمضامين مبثوثة في مواقع التواصل وتطبيقاته، أو أن تحفِّز خوض تحدّي المبادرة الإيجابية كي يتنافس المتنافسون في حقل مخصوص من حقول الخير والبرّ والتواصل والتضامن.

تتحقّق المعايشة المسجدية في الزمن التواصلي الجديد بخيارات تفاعليّة غير مسبوقة أيضاً، وهذا يقتضي حسّ مبادرة وروح إبداع يختزنه جمهور المسجد؛ وهذا ممّا يجدر التنقيب عنه واستثماره على أحسن وجه.

جدير بالنظر أنّ نشاط المسجد في إحياء رمضان صار مع الفرص التواصلية المستجدة نشاطَ المجتمع وما يتجاوزه، وإغفال هذه الفرصة السانحة تحجيم للأداء وتضييقٌ لواسع.

طوى زمنُ التشبيك والأجهزة المحمولة مركزيةَ البثّ والتلقين، وأحادية الاتجاه في المخاطبة، فالواقع المستجد يضع الجمهور في مركز الحالة التي تقوم على تفاعلية متبادلة يجدر الاعتراف بها والتكيُّف معها، واستيعاب النّقد الذي يرتفع منسوبه وتشتدّ تعبيراته عبرها، ومن شأن هذا أن يحفِّز العناية بالإتقان في الحضور والأداء والتصرّف؛ في العمل المسجدي وسواه من المجالات المجتمعية. تستثمر الإدارات الحاذقة الشبكات الاجتماعية وتطبيقات التواصل في استشعار آراء جمهورها وتفضيلاته لأجل التطوير المستمرّ؛ الذي لا غنى لأي إدارة رشيدة عنه، مع السعي إلى تكييف المخاطبة بما يتحرى خصوصية بعض الفئات والشرائح والأوساط.

إنْ لم تُنجِز إدارات المساجد والمراكز تجربة التحوّل الشبكي بمقاصدها الحسنة ومواصفاتها اللائقة، مع التجديد المستمرّ في هذا المضمار المتجدِّد؛ فإنّ فرصتها وإن تأخّرت تبقى قائمة؛ إن عزمت على اللّحاق وسَعَتْ إلى الاستباق، فمزيد من الآفاق التواصلية تنفتح عاماً بعد عام، أو مع كل موسم رمضانيّ بالأحرى.