رسالة المساجد في أوروبا

الشيخ كمال عمارة

الشيخ كمال عمارة

لا تخفى أهمية المسجد في الإسلام ومركزيته في أي مجتمع إسلامي، فهو مكان للعبادة والتربية والتعليم، وإطار للتعاون والتآخي والتحابب، ومنطلق للتوجيه والإصلاح في كل مجالات الحياة، حيث يستمد دوره من رسالة الإسلام وخصائصه العامة، وأهمها الربانية والشمول والعموم. فالمسجد محور الحركة وحجر الرحى في كل مجتمع أو تجمع إسلامي، ويؤكد ذلك أن أول شيء قام به النبي ﷺ عندما هاجر إلى المدينة هو بناء مسجده المبارك، وكان ذلك من أول يوم، كما ورد في قول الله تعالى {لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى ٱلتَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ ۚ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُطَّهِّرينَ} (التوبة 108)

كما بين الله تعالى أهميته ومهمته وحدد معالم مرتاديه في قوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (النور:36-38).

وتكتسي وظيفة المساجد في أوروبا أهمية أكبر، كما تعترض مهمتها صعوبات وتحديات أخطر.

فهي لا تحظى برعاية ودعم الدولة كما هو الشأن في البلدان الإسلامية، ولا تخضع لمرجعية إدارية أو شرعية رسمية، ولا تحظى بتأهيل أئمتها والقائمين عليها من قبل جهات ومؤسسات أكاديمية. وإنما قامت، إقامةً وعمارةً وتسييراً، بجهود أبناء المسلمين الذين حرصوا أن يبنوا صروح الإيمان ويرفعوا الأذان في كل مكان حلوا فيه، حتى أضحت المساجد اليوم ظاهرة بارزة ومعلماً حاضرا في كل ربوع القارّة وصولا إلى مشارف القطب المتجمد الشمالي حيث يوجد فيه بُيُوت {أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ}.

وقد دفع هذا كثيرا من المتربصين الذي يزعجهم الوجود الإسلامي في الغرب، يحاولون الحد من تأثير هذه المساجد وتعطيل رسالتها، بداية بالاعتداءات وحملات الحرق والتدنيس التي تقوم بها عناصر متطرفة في أكثر من بلد إوروبي، مرورًا بالتعطيلات الإدارية ووصولا إلى الاستهداف الممنهج عبر حملات التضييق والإغلاق الجائرة كما حصل موخرا في فرنسا والنمسا.

ولكن من باب الإنصاف فإن هذه الظاهرة محدودة، قياسا بما تجده المساجد في كل أنحاء أوروبا من حرية العمل والدعوة وإقامة المناشط والعبادة، بشكل يفوق ربما واقع المساجد في البلدان الإسلامية حيث التوظيف السياسي والتضييق الأمني والوصاية الفكرية على الأئمة، ومن وحي التجربة الشخصية.

أذكر أنني أخطب في أوروبا منذ عشرين سنة ولم يتدخل أحد يوما في مهمتي، ولم تسألني يوماً جهة رسمية ولا غير رسمية لشيء قلته لم قلته ولا لشيء لم أقله لِم لَم تقله، رغم أنهم لديهم اطلاع جيّد ومستمر على رسالة المسجد وطبيعة الخطب، ولا أظن أن هذا متيسر لأي داعية أو خطيب في أي بلد مسلم والتجارب في ذلك كثيرة.

كما يجدر التذكير في هذا السياق بأن المحاكم النمساوية قد أنصفت المساجد التي تعرضت للتضييق مؤخرا وحكمت بعدم قانونية الإجراءات المتخذة ضدها، وهذه بادرة إيجابية، لكنها تضع مسؤولية أكبر على المسلمين في الحفاظ على مساجدهم كمؤسسات منفتحة خادمة للمجتمع تحكمها الشفافية والانضباط. وبخاصة أن هذه المساجد تعتبر مكان العبادة الوحيد، والحاضنة التربوية الاجتماعية الأهم للمسلمين في أوروبا والإطار الذي يجمع شملهم وينسق جهودهم في الشدة والرخاء والمنشط والمكره.

***

بقلم الشيخ/ كمال عمارة

يتبع بمقال: قضايا متجددة حول رسالة المساجد في أوروبا