رسالة الإمام والخطيب (3)

الشيخ عبد الجليل حمداوي

الشيخ عبد الجليل حمداوي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه

الرسالة الأولي

الرسالة الثانية

د ـ خطاب الامام:

إذا كان الإمام إنما جعل ليؤتم به في صلاته، فإنه النبراس لأهل المسجد في شؤون حياتهم؛ فهم بهداه يقتدون. من ذلك أن يجتهد في تعليم الناس أمور دينهم وتحفيظهم ما شاء الله من كتاب ربهم، كل ذلك عبر برنامج منتظم حتى تأتيَ شجرته أكلها، “و أحب الأعمال الى الله أدومها وإن قل”  كما في الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم.

 ولا يفوت الامام أن يعظ اخوانه أيضا من حين لآخر برقائق تصقل القلوب، فعن ابن مسعود رضي الله عنه انه قال:” كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتخوّلنا بها) لموعظة( مخافة السآمة علينا “متفق عليه. فمن خلال حفظ الوحي والاتعاظ به والتفقه فيه يتم بناء شخصية المؤمن.

إن أهم محطة لتذكير الناس بالله وبواجبات دينهم هي خطبة الجمعة، وقد جعل الشارع الحكيم حضورها فرضا، واعتبر الانشغال أثناءها لغوا، فمنبر الجمعة يتبوأ من بين كل المنابر أرقى مقام، وخطبتها فرض دون غيرها والاستماع إليها لازم دون سواها.

قد يكون الإمام خطيب مسجد حيّه وقد يُعَيّن للخطبة غيرُه، ولا بأس في هذا إذا كان الإمام والخطيب على قلب رجل واحد؛ حتى لا ينقض هذا بدرسه ما أبرمه الآخر بخطبته لئلا يكونا {كالتي نقضت غزلها من بعد قوة انكاثا} (النحل 92) فيضيع أهل المسجد بينهما.

  نذكر بالمناسبة أمورا تعين الخطيب على أداء مهمته تتعلق أكثر بصلب موضوع الخطبة ومراعاة حال الحضور من المؤمنين دون التركيز على الفقه الشرعي للخطبة أو فن الخطابة والأداء ـ مما لا يقل شأنا ـ وكلاهما مبثوث في أدبيات يجمل بالخطيب الرجوع إليها في مظانّها.

ت ـ معالم للخطيب:

1ـ على الخطيب ـ قبل كل فعل ـ أن يتوجه الى الله بقلبه ليُعينَه ولا يكلَه الى نفسه، وعليه أن يجتهد ليخلص القول له وحده. فليست له ضمانة لقبول خطبته، بل عليه أن يفرح إذا وجد من يحمل عنه هذا الثقل لينجوَ أولا بنفسه، والمعين على هذا أن يستشعر ثقل المسؤولية الملقاة على عاتقه، فهو على منبره ينوب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في جزء من أمته، فأنّى له الى الاحسان إليهم إذا لم يتولّه الله بعونه ونصره.

2ـ إن مما يبارك خطبة الخطيب ويُبقي أثرها في قلب سامعها عدم التكلف فيها، وهو فرع عن الاخلاص، فمن يدعوا الى الله لا يدعوا الى نفسه، والتشدق بالكلام والتكلف في اختيار وتنميق الكلمات ليس من دأب السلف الصالح الذين هم أحكم وأعلم وأسلم، وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يقول: {وما أنا من المتكلفين} (ص 86).

 لا شك أن الفصاحة في الخطاب مطلب شرعي، واختيار أجمل العبارات غرض مَرعيّ ومَرضيّ؛ لكن هذا يكون سجية بعد تعلّم، وشرط الإتيان به فهم المخاطَب له. أَما أَن يخاطَب الإمام الناسَ من برج عال بكلمات لا تعيها آذانهم ولا تفقهها قلوبهم، فالخطاب يصير فتنة للسامع بل على الخطيب نفسه.

3 ـ من السم القاتل أن يتعالى الخطيب على الناس؛ إن بقوله أو بشعوره وقلبه، فالأمور بالعواقب ـ ختم الله لنا بالحسنى ـ فعلى الخطيب أن يُنزل نفسه خادما لعباد الله بخطبه وفي هذا رفعتُه، ومن أدراه إن قُبلت منه خطبته أم ردّت عليه؟  ورُبّ متعلِّم خيرٌ من معلِّمه! {والعاقبة للتقوى} (طه 132) وليست للأفصح بل للأتقى {هو أعلم بمن اتقى} (النجم 32). إن هذه الخطرات لها في التأثير في الناس بركات، وليس هذا من الهوس في شيء.

4 ـ من مراعاة أحوال الناس التحدث الى الناس بلغتهم؛ فمن العبث التحدث في كل الخطبة بالعربية وحدها في بلد أوروبي المسجد فيه غاص بفئات لا تفقه قول الخطيب في شئ، ودون أن تترجم لهم خطبته ليستفاد من علمه. فلا بد من الانتباه الى هذا، فإن استطاع الخطيب أن يخاطب الناس باللغتين فأكرم به وأنعم! لأنه قد لا يتأتى لفئة من الحاضرين الفهمُ بغير العربية، ثم إن منهم المتعلم والاميّ والكبير والصغير. رزقنا الله الحكمة وفصل الخطاب.

5 ـ ليس للخطيب أن يطيل الكلام إطالة مملة حتى لا يُنسيَ آخرُ كلامه أولَه، وقد ورد في هذا حديث عن عمّار مرفوعا: “إن طول صلاة الرجل، وقصر خطبته مَئنّة من فقهه، فأطيلوا الصلاة. وأقصروا الخطبة “رواه مسلم.  ولكن لا يعني هذا الاخلال بالمعنى. فان التبيين أساس الخطبة، والناس ذوو مستويات متباينة مما يضطر الامام الى تفصيل في أمر لئلا يُحمل على غير وجهه، أضف الى هذا ضرورة الترجمة ـ في ديار الغرب خصوصا ـ مما يطيل ضرورةً وقتَ الخطبة. فهذا مما لا بد منه، وإنما المحظور التفصيل الممل الممكن تفاديه.

بعد الحديث عن مراعاة الاخلاص لله وأحوال الناس تجدر الاشارة الى ما يتعلق بموضوع الخطبة من حيث الاستدلال وحسن الاخيار.

6 ـ لا بد أن يعتمد الخطيب في خطبته أساسا كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وآله وسلم إذ عليهما مدار الامر، ولا بد من اعتماد ما صح من الآثار حتى لا يشوش على أحد من السامعين، ولنا في ما صحَّ سعة في كل باب من أبواب الخير. فإن اضطر الخطيب إلى ذكر حديث ضعيف للحثّ على فضيلة من الاعمال، فإن له ذلك بضابط الرواية دون أن يصير دأبه، ويجمُل به أن ينتقي من أطايب الكلام مما أُثر عن اللآل والصحب وأهل التقى ذوي السبق.

7 ـ مما يساهم في نجاح الخطيب في مهمته تنويع الحديث؛ ولكل مقام مقال، فقد يتحدث ي ما هو تعبدي وما هو أسري واجتماعي إلى غير ذلك مما تقتضيه مصالح المسلمين، كل ذلك في إطار التذكير بالله واليوم الاخر وبفضل القرآن والتعلق بجناب رسول الله صلى الله عليه وآله سلم، مع الوقوف مع أحداث ايام الله، خصوصا عندما تحلّ ذكرى من ذكرياتها كحادث الاسراء والمعراج، أو يبلغ زمان مبارك كأشهر الحج ورمضان، ولا يفوت الواعظ أن يوازن بين الترغيب والترهيب، وله في قصص القرآن وسيرة الصالحين مجال فسيح  بما فيه من عبر لأولي الالباب من المؤمنين.

8 ـ من المواضيع ما له صبغة دينية ومنها ما يتعلق بأحداث اعتادها العباد في البلاد من ذكريات وطنية وأحداث سياسية بل وعادات دينية تتعلق أحيانا بغير المسلمين أيضا. فقد يلزم الخطيب تسليط الضوء عليها حتى يعرف الناس حكم الشرع فيها فينضبطوا بهديه وحكمته. فتحقيق التفاعل السلمي مع المجتمع والدولة من بين مقاصد خطبة الجمعة، وهذا مما يدفع بالخطيب إلى الإنفتاح على شتى المعارف وتقوية رصيده فيها.

9 ـ مما يجمل بالخطيب الوقوف عنده بل يتحتم عليه أحيانا ما يقع من احداث في حيّه من خير أو شر، فليغتنم حضور الناس وإنصاتهم لوعظهم بتخويف ليرعَووا عن الشر وبترغيب ليمضوا في طريق الخير، من هذا ما يتعلق بالإصلاح بين الناس وبين الجيران أو بين أفراد العائلات لوصل رحم أو لمّ شمل.

10ـ لا بد للخطيب من الاستيثاق والتثبت من الوقائع والاحداث، فقد يقع أن يخطب في الناس بما لم يصح أصلا فيصير بذلك فتنة عليهم. وليس كل موضوع جدير أن يناقش في خطبة الجمعة، ولا يليق بالخطيب أن يجعل من الحَبّة قبة. فإن رأى أن من الحكمة التحدث في واقعة ألمّت بأهل المسجد أو بأهل البلد فليسدد القول ولا يجرح بل يوضّح وينصح حتى لا يؤتى غيره من قبله، ولنا أن نذكّر بأن مساجد سُدّت في مثل هذا لعدم فقه الخطيب للمآلات.

11- لا يليق بالخطيب أن يتحيّن من منبره فرصا للردود على من يخالف، فإنها ستتوالى عليه فيردى. ولم تجعل المنابر للانتصار للنفس وإن بلباس الدين، فالآراء قد تتباين ولكن لا نريد ذلك لقلوب المؤمنين.

12 ـ من أهم عوامل نجاح الخطيب وَحدة موضوع خطبته. فلطالما تحدَّث خطيب في كل شئ وما فُقه عنه شئ، أو خاطب الناس بما لا يوافق أحوالهم، فعليه أن يختار مسألة وينظر فيها وفي أهم ما يناسب الناس منها حتى يخرج الناس من جمعتهم بفائدة في دينهم أو دنياهم دون شتات في البال.

13ـ ليكن الخطيب إيجابيا في خطابه، غير مثَبّط ولا مقنِّط، فلا يعتمد جلد الذات والرجوع باللوم دوما على الامة في احوالها، بل يُذكِّر بسنة الله المتعلقة بالتولي والخذلان مع استنهاض الهمم ونفخ روح الرجاء والثقة في الله واليقين في النصر وإمكان التغيير مع إيراد أمثلة لنماذج ناجحة، حتى يكون بنّاءً لا هدّاما من حيث لا يشعر.

14 ـ وفي الختام نوصي الخطيب أن يعطي الخطبة حقها من التهييئ، ولا يُعوّل على حسن نيته أو على رضا الناس بخطابه، فالله أحق أن يُرضى.” والامام راع وهو مسؤول عن رعيته” كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه البخاري. ويعين على هذا حسن نظرة الخطيب الى عمّار بيت الله وأنهم أجدر بالاحترام لِما أخذوا من وقتهم لعبادة ربهم، فليجتهد في تحسين خطابه لما ينفعهم حقا في أنفسهم وآخرتهم.

بعد كل هذا تجدر الاشارة إلى أننا ضربنا صفحا عن ما يتعلق بعلاقة الامام والخطيب بلجنة المسجد ومسؤولية وحدود مهمات كل واحد. فلهذا الشأن مجال آخر يستشار فيه أهله ممن خبروا الميدان.

نسأل الله السداد في القول والعمل

أخوكم عبد الجليل حمداوي