رسالة الإمام والخطيب (2) | الشيخ: عبد الجليل حمداوي

الشيخ عبد الجليل حمداوي

الشيخ عبد الجليل حمداوي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه

ج ـ الزاد والصفات:  

إن مسؤولية الإمام منوطة بتعليم الخير للناس وتذكيرهم بالله واليوم الاخر، ولكي يخوض بسلام غمار هذا الجهاد، جهاد الكلمة والتبليغ، فان عليه أن يسعى لترسيخ قدمه في أرض العلم والعبادة حتى يَصلُح ويُصلِح؛ فلا بد له في هذا من زاد:

1 ـ الزاد الإيمانية:

أول صفة ذكرها القرآن لمعمّري المساجد هي الإيمان بالله واليوم الاخر {إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر …} (التوبة 18)، وحيث أن الإمام رأس في مسجد الله فإنه يلزمه أن ينتبه الى هذا الأصل الأصيل حتى لا تكون كلماته خاوية بل مباركة باقية. وإن الإيمان يزيد وينقص حسب ما يأتيه العبد من طاعات أو معاص، فليجعل الإمام التقوى زاده: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} (البقرة 197).  لا شك ان من أعظم مولدات الإيمان ذكر الله وتلاوة القرآن وصحبة الصالحين ومجالستهم كذا باقي الطاعات، فليأخذ الإمام منها حظّه علّه يسير قُدُما في طريق الصلاح والاصلاح، فقد يُعرف الحق ولا يُؤتى لضعف الإيمان وقلة زاد الروح، ونحن نقرأ في الذكر الحكيم أن الله يخاطب من عباده أهلَ الإيمان لامتثال أوامره بقوله: {يا ايها الذين ءامنوا.. “. فعلى هذا المعوَّل.

قال الله تعالى: {وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لمّا صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون} (السجدة 24). يتبيّن من هذه الآية أن الإمامة في الدين منوطة بامتلاء القلب بالإيمان، “فهو بحق مادة الصبر واليقين، فقد روى الطبراني عن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه -، أنه قال: “اليقينُ الإيمان كلُّه، والصَّبرُ نصفُ الإيمان”.  وكيف يوقن بآيات الله من ضعف إيمانه به سبحانه؟ وما استأهل سيدنا إبراهيم عليه السلام أن يكون للناس إماما إلا بإتمامه كل الابتلاءات بنجاح لقوة إيمانه بالله سبحانه القائل: {وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما …} (البقرة 124).

الزاد العلمي:

عن ابن مسعود الانصاري أن رسول الله صلى الله عليه وآله سلم قال: “يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله ، فان كانوا في القراءة سواءً فاعلمهم بالسنة، فان كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة”. رواه مسلم  وزاد الحاكم: ” فان كانوا في الهجرة واحدا فأفقههم فقها، فان كانوا في الفقه واحدا فأكبرهم سنّا. ” من خلال هذا الحديث المبارك بروايتيه يتضح في حق الإمام أهمية العلم بالكتاب والسنة والفقه فيهما، كذا السبق في الهجرة التي تأخذ صورا شتى عبر التاريخ روحها السبق في الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين.

نُجمل الآن في سطور أهم ما يحتاج اليه الإمام:

  • التحصيل الشرعي: يجمل بإمام المسجد أن يجمع في صدره كتاب الله وما تيسر من أحاديث وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ الوحي أصل العلم النافع. ثم إن عليه أن يتفقه في دين الله دراية وتنزيلا ليكون منارا لأهل المسجد وحيّه وجمع كلمتهم، خصوصا في عصر ـ نعيشه ـ تضاربت فيه الآراء حتى صارت في بعض الأحيان فتنة لا رحمة ـ أعاذنا الله ـ.
  • ضبط اللغة: إذا كان لزاما على الإمام أن يُتقن العربية لفهم نصوص الوحي إذ بها أُنزل، فان عليه ايضا أن يكون قادرا على مخاطبة أهل بلده بلغتهم، إذ القصد التبيين: {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم.} (إبراهيم 4) وما أرسل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا الناس إلى كافة عربِهم وعجمهم، فاقتضى هذا تبليغ دعوته الى سائرهم وهي مهمة أتباعه الى يوم القيامة، وعلى رأسهم الائمة والخطباء.
  • فقه الواقع والبناء: مرّ بنا في الحديث النبوي أعلاه أن الأقدم هجرة مقدم في الإمامة على الأفقه في الشرع إذا علم الأساسي من مقتضاها، وهي لفتة ضرورية ليفقه الإمام أن من صلب دعوته بذل الجهد في ذات الله ومع جند الله، وهو ما يؤهله لينتظم في سلك المهاجرين حيث “لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية ”  . متفق عليه. ولا يمكنه هذا الا بفقه واقعه المحيط به مما يتعلق ببلده خصوصا وبأمّته عموما حتى لا يكون كالذي ينعق بما لا يسمع، فأهل الباطل يمكرون ليل نهار، فلا بد له من يقظة تقيه وأهلَ مسجده شرَّ الماكرين. ثم إن هذا الاطلاع على مختلف التيارات الفكرية ضروري لبناء الشخصية المؤمنة، وهو لا شك من أهم مهام الإمام، فالإنسان ابن بيئته، والمؤثرات ذات شعب!

3 ـ الزاد الخُلقي:

إذا كان الإمام يدل على الخير بقوله فانه يكون أبلغ بيانا بصلاح حاله، وفي مثل هذا قيل: ” حال واحد في ألف خير من وعظ ألف في واحد “فعلى الإمام أن يتسم بالرحمة دون هوان وبالقوة دون عنف وبسعة صدر تستوعب كلَّ عُمّار مسجده وأهل حيه ومن غير سذاجة، فلا بد له من حسن استماع وإنصات إلى من حوله ومواساتهم ومشاركتهم في أفراحهم وأتراحهم.  كل هذا في حدود الشرع حتى لا تزل قدمه نحو تملّق أو جفاء، وهما على طرفي نقيض ـ عصمنا الله ـ وإرضاء كل الناس غاية لا تدرك، {والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين} . (التوبة 62)

وإنه ليقبح أشدّ القبح أن يدعوَ الإمام الناسَ إلى فعل خير هو أبعد ما يكون عنه، أو إلى اجتناب منكر هو أول فاعله، فقد قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لمَ تقولون ما لا تفعلون. كبر مقتًا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون.} (الصف 2). قد تقتضي ضرورة ما أن يدل الإمام على فعل خير لم يُوفَّق اليه، حال بينه وبين فعله حائل، لتوضيح غامض او استنهاض نائم، ليدل على الخير أهلَه، فما هذا بالمحظور إذا صحت النية وتَوَقّد العزم.

في معرض الحديث عن مّن يعمر مساجد الله ذكر الله صفةً الإمام أولى الناس بها وهي في قوله تعالى: {…و لم يخش الا الله} (التوبة 18).  فلربما يقف الإمام مواقف تخور فيها عزيمته بسبب إغراء أو تهديد فينسى أنه يأمّ الناس بشرع الله وفي سبيل الله؛ فإذا به ينقطع عن حبل الله لإرضاء بعض العباد بسخط الله، فليتوكل على الله ولا يخش غيره، فإنّ الكذب في الدين أشدّ وبالا من الكذب في أمور الدنيا، وشتان بين المرونة التي تقتضيها الحكمة أحيانا وبين التزلّف إلى الناس أو التخوف منهم مما لا يليق بمن يتحدث باسم الله. من هذا ما قد يحدث في بعض مساجد الله من فتن يُحتاج فيها أن يصدَّق الصادق ولا يُستأمن الخائن، وأن يُسكَت الجاهل فلا يتحدث بجهله وهواه جاهدا ليُمليَ على الناس كيف تقام الصلاة وتخطب الخطب وتساس الأمور.

نسأل الله السداد في القول والعمل

أخوكم عبد الجليل حمداوي

يتبع