رجب وحرمة الإنسان

الشيخ الهادي بريك

الشيخ الهادي بريك

حرّم الله في كتابه الكريم ـ إقرارا. وليس إنشاء. كما سيأتي إن شاء الله ـ ثلث الزّمان. حرّم رجبا متوسّطا العام القمريّ. وحرّم ثلاثة شهور أخرى متعاقبة: ذي القعدة وذي الحجّة ومحرّم الذي به يبدأ كلّ عام قمريّ جديد.

قال عليه السّلام في درس رياضيّ بليغ ـ وهو ينهى خاله سعدا أن يدع ورثته يتكفّفون النّاس إذ يوصي بأكثر من ثلث تركته إلى غيرهم ـ أنّ الثّلث كثير. تحريم ثلث الزّمان إذن ـ وما العام إلاّ وحدة زمنية قياسية ـ كثير.

منشأ تحريم الزّمان هو عصمة الإنسان من بعضه بعضا. أن يستحرّ فيه القتل فتكون منه ثارات جاهلية وثارات أخرى تترى. ومن ذا تستحيل الحياة جحيما. وأيّ جحيم أقسى على الإنسان ـ المدعوّ إلى عمارة الأرض بالخير والجمال والعدل ـ من جحيم الأسياف التي تحصد الرّقاب وتزرع الخوف وتفسد الحرث؟ لم يأت الإسلام إبتداء بهذا النّظام الزّمنيّ الذي بمقتضاه يكون ثلثه كاملا محرّما.

إنّما ورث النّاس هذا ـ ربّما من سابقة دينية صمد فيها هذا التّشريع ـ. فأقرّه الإسلام كما يقرّ ما يجده صالحا أو نافعا ممّا لم يأت به في رسالة بليغة إلى النّاس أنّ الإسلام ليس دبّابة كاسحة تلغي كلّ ما تجده أمامها في طريقها بغضّ النّظر عن صلاحه من فساده. بل هو شريعة تخبر عمّا تخبر. وتنشئ ما تنشئ. وتقرّ الذي تقرّ. وهي حكمة من حكم ذلك التّشريع علينا حسن رعايتها في معالجتنا لواقعنا الأوربيّ الذي فيه كثير ممّا يمكن إقراره واستيراده.

ولم يقتصر الإسلام على تحريم ثلث الزّمان فحسب. بل حرّم مكانا كثيرا. حرّم أماكن العبادة كلّها بغضّ النّظر عن بطلان تلك العبادة وضلال أهلها أم صلاحها وصلاح أهلها. وفي ذلك جاء في سورة الحجّ المدنية قوله سبحانه يحرّض الأمّة على حماية حقوق الاعتقاد وتأمين النّاس في معابدهم (ولولا دفع الله النّاس بعضهم ببعض لهدّمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها إثم الله كثيرا). ومعلوم أنّ الصّوامع والبيع والصّلوات معابد لغير المسلمين. بل ذهب الإسلام إلى أبعد حدّ في ذلك الاتجاه حتّى إنّه حرّم تلك المعابد وأهلها العابدين فيها حتّى في حالات الحرب. وبذلك كان يوصي عليه السّلام المجاهدين بألاّ يتعرّضوا لعابد في معبده. حتّى لو كان معبده في دار الحرب ذاتها. أو كان أهله من المحاربين. إذ لا تزر وازرة وزر أخرى.

كما حرّم الإسلام المآوي الخاصّة للنّاس. من مساكن ومنازل ومضاجع وغيرها. وبذلك حذّر عليه السّلام من الإطّلاع في بيت قوم بدون إذنهم. وأنّ من فعل ذلك ففقئت عيناه لا ضمان على الفاقىء. وكان القرآن الكريم أصرح. إذ نهى عن التجسّس (ولا تجسّسوا). وما كان من الفاروق ـ عليه الرّضوان ـ وهو يتسوّر دارا أخبر أنّ أهلها يتعاطـــــــــون فيها المنكر إلاّ أن اعتذر لهم إذ ذكّره أحدهم بالحديث. بتعبيرنا المعاصر يمكن القول أنّ الإسلام حرّم النّوادي المغلقة الخاصّة التي لا يطؤها عدا أهلها. فلا هي تفتح لعموم النّاس ولا يخترق ما يعاقر فيها جدرانها ليصل إلى من هم خارجها. وهو المسمّى بالفضاء الخاصّ.

الإسلام سبق إلى تنظيم العلاقة بين الفضاءين: الخاصّ الذي لا يوطأ إلاّ لدواع أمنية تهدّد أمن النّاس. والفضاء العامّ الذي ينضبط فيه النّاس لنواميس الخلق المعروف. السّؤال هو : لم حرّم الإسلام الزّمان (ثلثه كاملا والثّلث كثير) وحرّم المكان الخاصّ سواء كان للعبادة أم لغيرها مادام مغلقا على أصحابه؟ لا يتردّد المرء في استنباط الحكمة من ذلك التّحريم الواسع. وهي أنّ الإسلام ما حرّم ذلك سوى لتحريم الإنسان نفسه. الزّمان قيمة اعتبارية لا حقيقية.

المكان نفسه يتغيّر. فهو اليوم معبد. وغدا يكون ملهى. أو العكس. ولكنّ الإنسان قيمة ثابتة أعلن الرّحمان سبحانه تكريمها بنفسه في العهد المكّيّ نفسه وذكر بعضا من صور ذلك التّكريم (ولقد كرّمنا بني آدم). المقصد العامّ الأسنى من ذلك هو تهيئة مناخ ملائم للإنسان حتّى يقدم على عمارة الكون بما أمر به من خير وعدل وجمال وزينة. لا مناص لتلك الرّسالة من أمن وأمان وسلم وسلام.

نحن نعيش هذا اليوم واقعا ملموسا. إذ تأكّد لدينا بأنّ الإسلام يقبل عليه النّاس كلّما شعروا بالأمن والسّلم. وكلّما أهرقت الدّماء وبثّ الهلع تأخّروا عنه. ليس هذا خاصّا بغير المسلمين. هو عامّ لنا جمعيا. كلّما انداحت مناخات الحرية والأمن تسابق النّاس إلى الخير. وكلّما انتشر الخوف تردّدنا. حقنّا بحفظ الحياة حقنا لحكم عجيبة. لماذا حرّم رجب؟ ليس هناك جواب قاطع. ربّما لما تحمله حادثة الإسراء والمعراج ذاتها من إعلاء لأوّل فريضة. أي الصّلاة. ولكن حدوث الإسراء والمعراج في رجب ليس قطعا مقطوعا لا يتسلّل إليه أيّ احتمال.

ولكن نعلم لم حرّم الله سبحانه الشّهور الثّلاثة المتعاقبة الأخرى. كان ذلك قطعا لتأمين حركة الحجّ التي كانت تأخذ من أهلها في تلك الأيّام أسابيع طويلة. بل شهورا. سواء لمن يأتي راجلا أو على كلّ ضامر. وهي العبادة الوحيدة التي تستغرق ـ مهما تعجّل المرء فيها ـ ساعات طويلات. بل نصف أسبوع كامل تقريبا. ولكنّ ذلك يزيدنا وعيا بأنّ الله سبحانه ما حرّم الزّمان والمكان (ومنه الحرمات الثّلاث التي لا تشدّ الرّحال إلاّ إليها) إلاّ لتحرير الإنسان من الخوف. وحتّى يكون أهلا إمّا لقبول دعوة الله سبحانه أو عدم قبولها وهو على بيّنة غير مكره (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر). على أن يتحمّل الكافر مسؤولية كاملة يوم البعث. ومن ذا فإنّ الحكمة من التّحريم (تحريم الزّمان والمكان لأجل تحريم الإنسان) هي تحرير منطقة العبادة ـ بغضّ النّظر عن أحقّية العبادة من بطلانها ـ لتظلّ آمنة حتّى في أتون الحروب الهادرة. وتحرير الإنسان ذاته ليعتقد ما يشاء. ويعبد ما يشاء. وتتحرّك سنّة التّدافع بين النّاس وفق نواميس معقولة وأسباب مقبولة. عمادها سيف البرهان. لا برهان السّيف. وأيّ محلّ لهذا التّحريم في أيّامنا؟ في الغابر كانت الأسياف ألسنة وأقلاما.

اليوم تسلّلت إلى المشهد مع تلك الأسنّة : ألسنة وأقلام. وآلات أخرى تصنع الكلمة صنعا عجيبا. وتؤثّر كلّ التّأثير من مثل الفنون وما يحمله الأثير. ومن ذا فإنّنا معنيون بفقه التّحريم لأجل لجم أسنّة الألسنة وأسياف الأقلام وآلات التّصوير وكلّ صور الكلمة التي بها أناط الله سبحانه الهداية والضّلال معا. وحتّى يكون ذلك التّحريم قيمة عملية لا فكرية فحسب فإنّه دعانا سبحانه إلى تجفيف منابع الظّلم فيها فقال (فلا تظلموا فيهنّ أنفسكم). والضّمير عائد إلى الأشهر الحرم الأربعة في سورة التّوبة.

وربّ ظلم باللّسان أو بالقلم يفوق الظّلم بالسّنان ألف مرّة ومرّة. هذا الضّرب من الفقه الحضاريّ العظيم (الحرمات المعنوية) هل تجد له أثرا بوزنه في تراثنا أو في فقهنا بصفة عامّة؟ أليس أولى بمنظومتنا التعليمية والإعلامية والتّوعوية في كلّ منابرها بثّ فقه التّحريم لعلّ الإنسان يرتقي إلى مصافّ عالية أراده الله لها؟ أليست هذه حدودا؟ أليست الحدود في الشّريعة أولى من المحرمات المادية؟ ألم يرتّب حديث الدّارقطنيّ ذلك بتفاضل (فرائض ثمّ حدود ثمّ محرّمات ثمّ مسكوت عنه)؟ أليس هذا من فقه الزّمان في الإسلام؟ أكرم بدين يحرّم الزّمان والمكان لأجل تحريم الإنسان.  هل تجد هذا التّحريم الذي يجعل من الإنسان مكرّما محرّما موقّرا في أيّ دين أو نظرية؟ اللهمّ لا.

بقلم الشيخ: الهادي بريك