خطبة جمعة | غزة.. نماذج ملهمة في متانة الإيمان وعمق اليقين

.. أمّا بعد،،

فقد أكرمنا اللهُ تعالى برؤية نماذج مُلهِمةٍ في متانةِ الإيمانِ وعُمْقِ اليقين.. نماذج مُلهمةٍ في الصبر والاحتساب.. نماذج مُلهمةٍ في استصغار الدُّنيا وتعظيمِ الآخرة..

فقد تهيّأ للنّاس في مشارق الأرض ومغاربها.. أن ترى بشراً لا تُكسَرُ إرادتُهم.. ولا تُوْهَنُ عزيمتُهم.. ثابتينَ مِثْل الجبال رغم هَدْمِ بيوتهم.. صابرين محتسبينَ رغم الأهوالِ والفظائع.. فإنْ أصابتهم مصيبةٌ قالوا الحمد الله.. وإذا مسّهم القَرْحُ كبّروا الله تكبيرا..

إنّها غزّة.. تُحيي فينا سِيَرَ الأوّلين.. مِن الصحابة والتابعين..

هي غزّة.. كتابٌ مسطورٌ بتضحياتِ الكبار والصغار.. بثباتهم واحتسابهم..

كفى بغزّةَ واعظاً لمن أراد الوعظَ هذه الأيّام.. فهو وَعظٌٌ حيٌّ يَدُبّ فوْقَ الأرض ويتحرّك في دُنيا النّاس..

وقد حار بعضُ الناسِ في عالمنا.. في فَهْمِ هذه القُوّةِ الإنسانيةِ الخارقة.. التي تُرى عياناً مِن واقعِ أجيالٍ تَستهينُ بآلامها.. وتتسامى فوق أشلائها.. وترتقي فوق أنقاضها.. حارَ بعضُ الناس في تأويل هذه الإرادة الصلبة.. التي لا تكسرها الأهوالُ التي تُصَبّ فوق الرؤوس..

حتّى تبيّن لبعض الحائرينَ أنّ سِرّ الإنسانِ في غزّة ينعقدُ في إيمانِهِ بالله تعالى.. وفي اتِّكالِه على الله عزّ وجلّ.. وفي احتسابِهِ كلّ ما يفقد أو يخسر عند فاطِرِ السماواتِ والأرض.. فكُلّ هذه الخسائرُ الظاهرةُ والتضحياتُ الغالية.. هي رصيدٌ مُدّخَرٌ عند مَنْ لا تَضيع عنْدَهُ الودائع.. هي رصيدٌ يتعاظَم عنْد من لا يُضِيع أجْرَ مَن أحسنَ عملا..  

تُقَدِّم غزّةُ نموذجاً مُلهِماً لمن يفتح عيْنيه وقلَبه وعقَله.. فإنّ الناسَ فيها إن استُهدِفوا بالتدمير عادوا في كلِّ مرّةٍ إلى التعمير.. فهذه الأبنيةُ والعمائر التي قوّضها الغزاةُ تقويضا.. أعيد بناؤها مرّاتٍ ومرّاتٍ مِن قبل.. ولن يَكُفّ الأهالي مِن بعدُ إن شاء الله عن رَفْعِ بُنيانِها من القواعِدِ.. كما كانوا يفعلون..

وإنْ هَوَت السُّقوفُ فوْق الرؤوس.. وأُطيحَ بالجدران.. وطارت النوافذ.. وَجَدَتَ الحياةَ تدبُّ فيما بقي مِن قاطنيها.. ليواصلوا العيش والاجتماعَ فوْق أنقاضِها.. وقد أدركوا أنّ جرائم الحرب الفظيعة قد تَسْحَقُ البُنيانَ والأبدان لكنّها تعجز عن تقويضِ إرادةِ الإنسان؛ إن هو استلهَم العوْن من الله الكبيرِ المتعال.. مِن الله تعالى ذي الجلال..

تُعَلِّمُنا غزّةُ هنا دروساً وتمنحنا مواعِظَ.. هي دروسٌ لا تُقدّرُ بثمن.. دروسٌ تُحرِّرنا من قبضةِ العجز.. ومواعِظُ تُخلِّصنا من وطأةِ الانكسار.. فمن يجزع مِن هَمٍّ أصابه.. أو يَفْزع من غَمٍّ ألمّ به.. فليلتمسْ الموعظةَ مِن رجال غزّة.. مِن أمّهات غزّة.. من جدّات غزّة.. من شيوخِ غزّة.. مِن أطفال غزّة.. الذين إذا أصابتهم مصيبةٌ قالوا إنّا لله وإنّا إليه راجعون.. الذين إنْ أحاطَت بهم الفظائع صاحوا: اللهُ أكبرُ ولله الحمد.. فتقزّم حطامُ الدُّنيا في عيونهم وتطلّعت أفئدتهم إلى الجائزةِ الكبرى من العليِّ القدير.. وإنّما يوفّى الصابرون أجرَهم بغيرِ حساب..

هل أدرك الحائرون سِرَّ غزّةَ الآن؟ إنّها القلوب المتّصلةُ بالله تعالى.. والعقولُ التي وَضعت الدُّنيا وما فيها في حجمها المنطقيّ.. فالإنسانُ لن يبقى في هذه الدّارِ خالداً مُخلّدا.. وإنّ كلّ ما يُقاسيه فيها قد يصيرُ زيادةً له في الأجر.. وقد يُحتَسبُ قرباناً لله تعالى.. وإنّ الإنسان إنْ احتسب كلَّ هذه التضحياتِ العظيمةِ في سبيلِ الله تعالى.. فإنّها ستهون وتتضاءل.. وتَكْبُرُ معها إرادَتُه.. وتتقدّم عبْرها قضيّته..

تقولُ لنا غزّة.. (يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ) سورة غافر – 39

أدركَ أولو الألباب أنّ المشاهِد الملحميّةَ التي يُسَطِّرها أهالي غزّةَ على مرأى من العالم.. بكبرياءِ إرادتِهِم.. واستعلاءِ كرامتِهِم.. وبعِزّةِ أنفسُهِم.. وعِفّةِ ألسُنِهِم.. بثباتِهم وصمودِهم وشجاعتِهم.. وباصطبارهم واحتمالهم واحتسابِهم.. هذه المشاهدُ لا تتشكّل إلاّ برؤيةٍ ثاقبةٍ للحياة.. ونظرةٍ ذات مغزًى للوجود.. وهكذا تَعْرِضُ غزةُ مثالاً في القيَم النبيلة والمبادئ السامية.. التي يجدُر اسلتهامُها.. ولو أنّ الناسَ في غزّة أُشرِبوا في قلوبهم حُبّ الدُّنيا وزينتَها.. لشوهِدوا يَنْكَسِرون فوق حُطامِها.. أو يَجْزَعون من هول الخسائر التي أُلحِقَت بهم.. من فظاعةِ فَقْدِ الأحبّةِ والأقربين.. لكنّهم تسامَوْا فوق الحطام والخسائر.. وعَدُّوها في رصيدِهم عنْد الله تعالى.. واعتبروها تضحياتٍ واجبةً لأجل حريّتهم وحقوقهم وكرامتهم..  

ولَنْ يَسْتَقِرّ هذا الدرسُ في وَعْي الذين يعلمون ظاهراً من الحياةِ الدُّنيا وهُم عَن الآخرةِ هُم غافِلون.. ولنْ يُدِرِكَه الذين طاب لهم الاغترافُ من الدُّنيا والتثاقُلُ إلى الأرض.. الذين فَرِحوا بالحياةِ الدنيا.. وما الحياةُ الدنيا في الآخرةِ إلاّ متاع..

ثم إنّ المساجدَ التي هوَت مآذنُها.. وفُجِّرت قِبابُها.. وقُوِّضت جدرانُها.. هي ذاتُها التي ابتُنيَت من قبلُ مرّاتٍ ومرّات.. وسيبتنيها الرُّكّعُ السجودُ من بعدُ إن شاء الله.. ليُذكَر فيها اسمُ اللهِ كثيرا..

والجامعاتُ والمعاهدُ العلمية والمكتبات.. التي أحالها جيشُ البغيِ خرائبَ وأطلالاً.. هي ذاتُها التي شُيِّدت بعدَ كُلِّ مرّة هُدِّمت فيها أو أُحرِقت.. وستعود دوْحاتٍ للعلمِ والمعرفة عن قريبٍ إن شاء الله..

فلا تَغُرَّنّكُم مشاهدُ الخرابِ الرّهيبِ.. والأطلالِ المتزاحمة.. والأنقاضِ المتراكمة.. فإنّ الاتِّكالَ على اللهِ تعالى.. واستلهامَ العوْنِ منه.. سيعيدُها إن شاء الله فوقَ ما كانت عليه.. فكيْفَ لك أخي الكريم من بعدُ وأنْت ترى هذا المثالَ العمليَّ المرئيّ.. أن تَسْمَحَ لِضَعْفٍ بأنْ يَسْتَوْلِيَ عليْك.. أو أن تَرْكَنَ لعَجْزٍ يستحوذُ على إرادَتِك؟

هي غزّةُ إذ تُقيمُ الحُجّةَ على كلِّ من يقول: لا طاقة لي بكذا أو كذا.. لا طاقةَ لي بحفظِ آياتٍ من كتابِ الله تعالى! لا طاقةَ لي بتركِ ما اعتدتُ عليه! لا طاقةَ لي بعملٍ أو كسبٍ أو تعلُّمٍ أو تطوير! لا طاقةَ لي بصيامٍ أو صدقة! لا طاقةَ لي ببذلٍ أو عطاء!.. فغزّةُ تقيمُ الحُجّةَ على كُلِّ من يستسلمُ لعجزه أو كسَله.. أو يرضخُ لجُبنِهِ أو بُخْلِه!

نَقَلَتَ لنا الكتُبُ سِيَرَ الصالحين عبر العصور.. وها هي المشاهدُ المصوّرةُ.. المحمولةُ بالبَثِّ المباشِر وعبر الشاشاتِ والشبكات.. تَنْقُل إلينا نماذجَ عمليةً مُلهِمةً لإنسانِ العصر.. تُعينُه على الرُّشْدِ في مسالكِ الحياة.. كي تَنْتَظِمَ الأولويّاتُ عندَه كما ينبغي.. تقديماً وتأخيرا.. وكي يتحرّر من ثقافةِ الاستهلاكِ الجامحة.. التي تُضَخِّم اقتناءَ المادِّيات وتحضُّ على التراكُضِ خلف السِّلع التي لا نحتاجُ كثيراً منها في واقع الأمر.. فهذه النماذجُ العمليةً المُلهِمة.. تعينُ إنسانَ العصر في التخلُّصِ من تَحَسُّسِه المُفْرِط لما قد يمسّه من كدَرٍ وهموم أو أرقٍ وانشغال.. فإنّ الإنسانَ إنْ أدرك الغايةَ من الوجود.. ولم تأسِرْهُ الدُّنيا وزينَتُها.. يكون الإنسانُ عندها قد تحرّر بحقّ وارتقى المُرتقى.. وأدرك معنى قوْلَه تعالى (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ۖ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ۗ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) – سورة الأنعام 32

يكون الإنسان عندها قد أدرك معنى قوله تعالى (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا ۚ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) سورة القصص – 60

يكون الإنسانُ وقتها قد أدرك مغزى قوله تعالى (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّىٰ إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ۚ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) – سورة يونس 24

هكذا قدّمت غزّةُ لنا ولشعوب العالم.. دروساً في عِزّةِ الإنسانِ وكرامَتِه.. وعِظاتٍ في صلابةِ الإرادةِ ومَتانةِ الاحتمال.. فجادَت غزّةُ علينا وعلى عالمِنا بنماذِجَ مُلهِمةً في الصبْر والاحتساب.. والتكافُلِ والتراحُم.. وفي ارتقاءِ الإنسانِ فوْق أوجاعه.. وتساميه فوْق آلامه.. إنْ تهيّأ لَهُ إدراكُ مغزى الوجود.. وتطلّع ناظراهُ إلى المعالي..

فيا أهلَ غزّة.. لا تَهِنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون بإيمانكم..

يا أهلَ غزّة.. إن يَمْسَسْكُم قرحٌ فقد مَسّ القوْمَ قَرْحٌ مِثلُه.. وتلكَ الأيّامُ نُداولها بين الناس.. ولِيَعْلَمَ اللهُ الذين آمنوا ويتّخِذ منكم شهداء..

يا أهلَ غزّة.. ها أنتم من فوق الأنقاض تفتحون أبصارَ الأُمَم والمجتمعات على دُروسٍ بليغةٍ وعِظاتٍ عميقة.. تشتدّ حاجةُ البشر إليْها في هذا الزمان..

يا أهْل غزّة.. نسأل الله تعالى أن يتقبّل تضحياتِكِمُ العزيزة.. وأنْ يَرْبِطَ على قلوبِكُم.. وأن يُؤتِيَكم ثوابَ الدُّنيا وحُسْنَ ثوابِ الآخِرَة..

وإنّ قلوبَنا معكُم يا أهْلَ غزّة.. فاللهم بَرداً وسلاماً عليكم.. اللهم برداً وسلاماً على غزّة.. اللهم برداً وسلاماً على الضِّفة.. اللهم برداً وسلاماً على القُدس.. اللهمّ برداً وسلاماً على فلسطين.. 

اللهم رُدّ كيْدَ المعتدين.. وارْبِط على قلوبِ المكلومين.. اللهم ارحم شهداءهم واشفِ جرحاهم واجبُر كَسْرَهم..

اللهم نسألك صلاةً جامعةً في المسجد الأقصى المبارك.. وقد رُفِع الكرب عن القدس وانجلت الغُمّة عن فلسطين.. ولا تحسبنّ الله غافلاً عمّا يعمل الظالمون..

(.. استكمال الخطبة.. ثمّ الدعاء)

المقالات المنشورة بالموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي المجلس الأوروبي للأئمة