خطبة جمعة | عام جديد وما زال الضحايا يسقطون في غزة

أمّا بعد،،

إنْ هي إلاّ أيّام قليلة.. ويُعلِن عالمُنا نهايةَ السنة وبدءِ عامٍ جديد..

تتصرّم الأيّام وتمضي.. دون أن يُوْقِفُ عالمُنا هذه المذابح الرهيبة.. التي تجري في فلسطين..

تنقضي السَّنَةُ.. ولا زالت آلةُ الإبادةِ تتقدّم فوقَ الأشلاءِ والأنقاضِ في غزة.. فوق أبدانِ الصِّغارِ والنساء والمُسنِّين..

ندخل عاماً جديداً.. مع حشود الضحايا الذين يقُتلون لحظةً بعد لحظةٍ بغير حقّ.. إلاّ أن يقولوا ربُّنا الله..

تكتشف الضمائرُ الحيّةُ في كلِّ مكان.. وحشيّةَ عالمٍ يسمحُ بالمروقِ من الإنسانية.. يتهاونُ مع الفظائع أو يدعمُها ويبرِّرها.. وقد يعتبرُ الجاني ضحيّة ويَعُدّ الضحيةَ هي الجاني..

هي أزمةٌ أخلاقيةٌ مُتفاقمة.. ومعضلةٌ قيميةٌ مُستعصية.. تتحدّى عالمنا.. وتنتهكُ إنسانيتنا..

ولن يُدرِك هذه الحقيقةَ مَن أشاحوا بوجوهِهم بعيداً عمّا يجري.. ألا يَرَوْن ما نرى.. أم على قلوبٍ أقفالُها..؟!

تُشَقّ الأخاديدُ في الأرض كلّ يوم.. لتحتوي جثامينَ الأبرياءِ المتكوِّمةَ بعضها فوق بعض.. كي تصيرَ الأخاديدُ مقابرَ جماعية.. تحتَ سمعِ العالمِ وبصره..

يُحمَل المرضى فوق عرباتٍ بدائية تجرّها الدواب.. بعد أن قُصِفت سيّاراتُ الإسعافِ وعُطِّلت..

تُنْقَلُ الجثامين في جرّافاتٍ أو عرباتِ الشحن.. وقد لا تسلَمُ من القصفِ والاستهداف..

يُترَك الأطفالُ مع أمّهاتهم وجدّاتهم.. يُترّكون أيّاماً بليالها تحت أنقاضٍ أُسقِطَت فوقَ رؤوسهم.. يُتركون عالقين تحتها ليلةً بعد ليلة في هذا الشتاء.. إلى أن تتقرّحَ جلودُهم.. وتَجِفّ أبدانُهم.. وتنقطعََ أنفاسُهم.. ويُسلِمون الرُّوحَ إلى بارئها..دون أن يتمكّن أحد من انتشالهم..

وإنّك لترى طفلةً صغيرة.. وقد نجت وحدَها بعد أن سحق القصفُ الهمجيُّ أسرتها وأجهزَ على أقاربِها عن آخرهِم..

وحشيةٌ تتراءى للعالم أجمعَ في كلِّ ساعة.. ثمّ يدّعي أربابُ هذا النهجِ الآثمِ.. أنها من فِعْلِ الحضارةِ والتحضُّر.. ومن مسالك الخير والنور والإنسانية..!

إنّ درْسَ غزّةَ المؤلمَ.. يَفْرِضُ على كلّ صاحب ضمير ومبدأ.. أن يرفع صوتَه كي يُنظَرَ إلى قيمةِ الحياةِ الإنسانية والكرامةِ البشرية على قدم المساواة.. كي لا يُوضَعَ بعضُ البشرِ فوقَ بعضٍ في المرتبة والحقوقِ والاهتمام.

وقد صار واضحاً أنّ هذا كلّه ما كان ليُسمَحَ بقسطٍ منه.. لو أنّه مسّ أمماً أخرى.. وكأنّ حياةَ البشر لا تتكافأ.. وأرواحَهم لا تتساوى.. وكرامتهم لا تتعادل..!

إنّنا شهودٌ على هذه الاستهانةِ المُريعةِ بحياة البشر.. بهذه الإبادةِ المرئيةِ للعالم أجمع بالصوتِ والصورة والبثِّ المباشر.. فهل ما يُوقَعُ على غزّةَ وفلسطينَ من الإبادة يُقبَل به في غيرها؟

سؤالٌ مؤلمٌ.. يَفْرِضُ على كلّ حُرٍّ أن يَقْرعَ نواقيسَ الخطرِ في عالمٍ يتسامَح مع ما يجري ويلتمسُ له الأعذار؟

ومن نافلةِ القوْل أنّ المأساةَ الرهيبةَ الجاريةَ في قطاع غزة.. لم تتشكّل بفعلِ كارثةٍ طبيعية؛ فهي نتاجُ سياساتٍ ظالمة.. ومواقفَ جائرة.. وتواطؤاتٍ ذات أثر قاتلٍ ومدمِّر، ولا ينبغي التهاوُن معها أو السماح باستمرارها.

يُذبَحُ الإنسانُ في غزة في كلِّ دقيقة.. ويتواصلُ ذبحُهُ في سنة جديدة..

كيف لعالمِنا أن يُشغِّلُ قيَمَه ومبادِئَهُ ومواثيقَه بصفة انتقائية، وأن لا تتكافأ فيه أرواحُ البشر.. أو تتساوى فيه حقوقُهم وحريّاتُهم وكرامتُهم؟

خَذَلَ النظامُ الدولي شعباً مُستضعَفاً اقتُلع قسراً من أرضه ودياره.. شعباً سُلِبَ حرّيتَه وحقوقَه وسيادتَه وفُرض عليه الاحتلال والقهر والتشريد والحصار والعبودية جيلاً بعد جيل..

سَمَح عالمُنا المكلّلُ بشعاراتِ الإنسانيةِ والرأفة.. ومواثيقِ الحقوقِِ وكرامةِ البشر.. بإيقاع كلّ هذه المآسي وباستمرارها وتعاظُمِها.. سمَحَ لجيشِ الغزاةِ أن يهاجمَ المستشفيات.. ثمّ يتركَ الأطفالَ الرضّع المرضى وحدهم فيها.. حتى ماتوا عطشاً وجوعاً وتحلّلت أبدانُهم..

سمَحَ عالمنا لجيش العدوان.. أن يستفرد بالبشرِ الأبرياء من الشيوخ والأطفال والفتية.. فيقتلهم في كلِّ يومٍ برصاصه الغادر وهم يفرّون في الطرقات من القتلِ إلى القتل.. ثمّ تركَ الغزاةُ هذه الأبدان على قارعةِ الطريق حتى تحلّلت عن آخرها وصارت جماجمَ متناثرةً وهياكلَ عظمية تعلوها أثوابٌ مخضّبةٌ بالدم..

وهذا كلُّه قليلٌ من الفواجعِ الرهيبة التي شاهدناها بأمّ أعيننا.. وبعضها لا يُكادُ يُصدّق من بشاعَتَهِ وهوْله..

وقد تعيّن التذكيرُ في هذا المقام.. بأنّ الجرائمَ ضدّ الإنسانية انتهاكٌ للإنسانية جمعاء وليس لضحاياها المُباشرين.. الذين تُسلَب حقوقُهم في الحياة والأمان والحرية والكرامة الإنسانية في قطاع غزة أو غيره.

ومن العواقبِ المفزعةِ للسماح بهذه الفظائع.. أنّه يختطُّ نهجاً تبريرياً لأيِّ حملةِ إبادةٍ وتطهيرٍ عرقيٍّ وجرائمِ حربٍ وانتهاكاتٍ جسيمة.. قد يستسهلُ أيُّ طرف جائر في عالمِنا الإقدامَ عليها في الحاضرِ أو المستقبل.

إنّ العالم الذي يُحدِّد موْقفَه من الفظائع طبقاً لهُويّةِ الجاني وهُويّةِ الضحية.. هو عالمٌ لا أمانَ فيه ولا حقوق ولا عدالة..

يا أهْلَ غزة.. يا شعبَ فلسطين.. لا تَهِنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون بإيمانكم..

يا أهل غزةَ الصابرين.. بشراكم اليوم من الله تعالى.. ألم يَقُل عزّ وجلّ في كتابِهِ الكريم: (وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ)؟ سورة البقرة 155

يا أهلَ غزّة.. إن يَمْسَسْكُم قرحٌ فقد مَسّ القوْمَ قَرْحٌ مِثلُه.. وتلكَ الأيّامُ نُداولها بين الناس.. ولِيَعْلَمَ اللهُ الذين آمنوا ويتّخِذَ منكم شهداء..

يا أهْلَ غزّة.. نسألُ الله تعالى أن يتقبّل تضحياتِكِمُ العزيزة.. وأنْ يَرْبِطَ على قلوبِكُم.. وأن يُؤتِيَكم ثوابَ الدُّنيا وحُسْنَ ثوابِ الآخِرَة..

اللهم بَرداً وسلاماً عليكم.. اللهم برداً وسلاماً على غزّة.. اللهم برداً وسلاماً على الضِّفة.. اللهم برداً وسلاماً على القُدس.. اللهمّ برداً وسلاماً على فلسطين.. 

اللهم رُدّ كيْدَ المعتدين.. وارْبِط على قلوبِ المكلومين.. اللهم ارحم شهداءهم واشفِ جرحاهم واجبُر كَسْرَهم..

اللهم نسألك صلاةً جامعةً في المسجد الأقصى المبارك.. وقد رُفِع الكرب عن القدس وانجلت الغُمّة عن فلسطين.. ولا تحسبنّ الله غافلاً عمّا يعمل الظالمون..

(.. استكمال الخطبة.. ثمّ الدعاء)

المقالات المنشورة بالموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي المجلس الأوروبي للأئمة