حال المسلم مع القرآن في شهر رمضان | الشيخ طه عامر

الشيخ طه عامر

الشيخ طه عامر

هل تنشغل فقط بكثرة القراءة وعدد الختمات؟ هل الأفضل أن تعكف على تفسير سورة خلال شهر رمضان وتدبر معانيها؟ هل يمكن أن تطالع تفسيراً موجزاً للقرآن الكريم؟ ما هو الأفضل في شهر رمضان؟

يحضرني هنا ما جاء في كتاب الإحياء عن بعض السلف أنه قال:

لي في كل جمعة ختمة {أي: أسبوع}، ولي في كل شهر ختمة، ولي في كل عام ختمة، ولي ختمة لم أفرغ منها منذ ثلاثين عاما.

ما هذا؟

 ربما أراد أنَّ له ختمة مراجعة للقرآن الكريم للتثبت، وهذا مسلك الحفظة، فلا يُشترط فيها حضور القلب وتأمل المعاني.

ثم هناك ختمة شهرية، ربما تكون ختمة قيام، أي: يقوم كل ليلة بجزء من القرآن العظيم، وأما الختمة السنوية ربما تكون ختمة تفسير وتدبر، وأما ختمة العمر فربما تكون ختمة التحقق بالقرآن، أي: التخلق بأخلاقه، وتنفيذ أوامره، والوقوف عند حدوده وزواجره، والترقي في مدارجه.

والحاصل: أن الأمر يختلف بحسب الأحوال والظروف والقدرة والأشخاص، لكن يمكن أن نشير إلى ما يلي:

1- احرص على كثرة قراءة القرآن الكريم واختمه على الأقل مرةً، وإن زدتَ فهو خير لك.

واعلم بأنَّ كثرة القراءة بقصد الأجر فقط لا بأس. والمأثور عن السلف كثرة عدد الختمات، وكان الفقهاء يتركون الانشغال بالفقه ويُقبلون على القرآن الكريم، وذكر ابن رجب الحنبلي في لطائف المعارف طرفاً من أحوالهم، فلنرجع إليه.

2- تخيَّر سورة من القرآن الكريم خلال شهر رمضان وانشغل بتفسيرها وتدبرها والتحقق بمعانيها وإنزالها على قلبك.

3- اجعل لك مع أسرتك كل يوم جلسة تلاوة وتدبر لكتاب الله تعالى.

4- احرض على القيام بالقرآن الكريم مع الجماعة في المسجد، وفي خلوتك.

أهل السلوك وإصلاح القلوب

 وعند قراءة كتب السلوك ومطالعة ما كتبه الصوفية في إصلاح القلوب سنجد أن جوهر ما دندنوا حوله موفور في هذا الشهر العظيم.

 ولعلهم من أبرز الجماعات في تاريخ الإسلام ممن برعوا في تربية النفس وتزكيتها وتصفيتها والأخذ بزمامها إلى الله تعالى، وقد اجتهدوا في وضع طرائق ووسائل منها:

الجوع، والعزلة، والصمت، والسهر، والأوراد. وسنقف مع بعضها وقفات لنرى صلتها بصوم رمضان.

ورغم الانحراف الذي مس كثيراً من تلك الطوائف إلا أنَّ أقطاب الصوفية وعلماءهم الكبار تركوا رصيداً زاخراً عظيماً منضبطاً بأصول الشريعة وقد أطلق شيخ الإسلام ابن تيمية مصطلح علم السلوك على “التصوف”.

 يقول الإمام الجنيد: – وكان يلقبه الإمام ابن القيم ب “سيد الطائفة” – ما أخذنا التصوف عن القيل والقال، ولكن عن الجوع، وترك الدنيا، وقطع المألوفات والمستحسنات، أي: بشدة المجاهدة.

 ولا ريب أن بعض الطوائف أخطأت في اتخاذ طرقٍ لتهذيب النفس والروح وحادت عن الوسط، فجاء الإسلام بتشريع الصوم الذي اجتمعت فيها جميع وسائل التزكية وترقية الروح، فَمن رام مبدأ الحرمان تأديباً للنفس فهاك الصوم.

كتب الإمام أبو حامد الغزالي في أسرار الصوم وشروطه الباطنة:

” ألا يستكثر من الطعام الحلال وقت الإفطار بحيث يمتلئ جوفه، فما من وعاء أبغض إلى الله عز وجل من بطن مليء من حلال. وكيف يستفاد من الصوم قهر عدو الله وكسر الشهوة إذا تدارك الصائم عند فطره ما فاته ضحوة نهاره. وربما يزيد عليه في ألوان الطعام.

ومعلوم أن مقصود الصوم الخواء وكسر الهوى لتقوى النفس على التقوى.

باختصار/ إحياء علوم الدين / 308

ونرى أن الصائم يعاين من نفسه الفارق الكبير حينما يتخفف قليلاً من الطعام عند الإفطار وأثره على قلبه وخفة روحه في صلاة التراويح.

لقد شَقىَ العالم وشقينا معه طويلاً حينما عكفنا على خدمة الجانب المادي وتغافلنا عن روحنا وقلبنا. وقد ظننا أن أقدامنا هى التي تحملنا وتجري بنا كما نبغي نحو مواطن السعادة والرخاء، ونسينا أنَّ قلباً فارغاً من الآخرة عاكفاً على دنياه لاهثاً خلفها سيظل حائراً خائفاً مضطرباً حتى يرتوي من مادة الوحي الأقدس.

وانطلق يَعُبُّ من الشهوات عبَّا، وكلَّما نال حظاً منها سئم وفتَّش عن غيرها لعله يجد فيها الدواء، ولا يدري أنه الداء الذي يجلب أنواع البلاء.

 ووسط هذا الركام من تَزَاحُم الدنيا على القلب والروح يأتي شهر رمضان ليعيد التوازن الروحي للمسلم.

 أثر العزلة في تزكية النفس

   جعل الإسلام العزلة وسيلة للصفاء الذهني والروحي، وقد كان الرسول ﷺ قبل الوحي يعتزل في غار حراء، وسن لنا رسول الله ﷺ الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان، واعتكف الرسول ﷺ عشرين يوماً في آخر حياته.

 على أن مقصود العزلة ليس هروباً من واجب، أو يأساً من الاجتماع البشري، بل هو محطة للتنقية وشحن القلب وتطهيره من غيوم الذنوب، وهموم الدنيا وأشغالها حتى يعود مرة أخرى خَلقاً جديداً في فكره النقي وقلبه التقي وفؤاده الذكي وعمله الرضي.

 ولا ريب أن قلوبنا بحاجة في عصرنا لخلوة من وقت لآخر نرجع فيها لأنفسنا، ونعكف طويلاً على كتاب الله تعالى وتدبره، وعلى النفس وتهذيبها، وعلى ما يُصلح الأمة من أفكارٍ ودراساتٍ ومشروعاتٍ.

 ما أجمل عبارة الإمام ابن عطاء الله السكندري:

“ادفن وجودك في أرض الخمول، فما نبت مما لم يُدفن لا يتم نتاجه. ما نفع القلب شيء مثل عزلة يدخل بها ميدان فكرة. كيف يشرق قلب صور الأكوان منطبعة في مرآته، أم كيف يرحل إلى الله وهو مكبل بشهواته. أم كيف يطمع أن يدخل حضرة الله ولم يتطهر من جنابة غفلاته، أم كيف يرجو أن يفهم دقائق الأسرار وهو لم يتب من هفواته”.

أدعوكم للعودة إلى شروح حكم ابن عطاء الله القديمة، ومنها: شرح الشيخ زروق أو ابن عباد النفري أو ابن عجيبة، أو المعاصرة للشيخ سعيد حوى في كتابه “مذكرات في منازل الصديقين والربانيين”.

وقد تعرض شيخنا الغزالي لعدد من الحكم بأسلوبه الفريد في كتابه “الجانب العاطفي في الإسلام”.

بقلم الشيخ: طه عامر