ثلاثة أسئلة .. عن رمضان

السؤال الأول:  لماذا أصوم؟

درج الناس – سيما عندما رقّ التديّن عِلْماً – على الاهتمام بسؤال الكيف. أي: كيف أصوم؟ وهو مطلوب، لأنه من فقه الحكم. ولكن لا تتمّ العبادة حتى نُعزِّر ذلك السؤال بسؤال آخر هو له قرين، وهو: لماذا أصوم؟ وبذا يجتمع الحُكْم بحِكْمتِهِ، ويرتقي الصّائم إلى مَصافِّ الذين يحبّهم الله تعالى، إذ قال عليه السلام: “فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم”. العالم هو الذي يعلم لماذا يصوم ثم يصوم. أمّا العابد، فهو الذي يصوم ولا يعلم لماذا يصوم.

القرآن الكريم يُجيبُنا: لماذا نصوم؟

ممّا كتب ابن القيّم رحمه الله، أنه أحصى في القرآن الكريم المواضع التي فيها عِللٌ وحِكَمٌ، فلمّا ناهز ألفَ موضِعٍ أَرسَلَ الأمرَ. إذ تبيّن له أنّ هذا الكتاب يعتني بالحُكْم بقدر اعتنائه بحِكْمةِ الحُكْمِ. لماذا نصوم؟ سؤال أجاب عنه القرآن الكريم. إذ قال سبحانه في آيات الصّيام في سورة البقرة: “يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصّيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلّكم تتقون”. إذ بيّن الذِّكرُ الحكيمُ هنا أنّ المقصود من الصّيام هو حصول التقوى (لعلّكم تتقون). أصل التقوى هو الاجتناب، كما بيّن ذلك حَبْرُ الأمّة لِسائلٍ عنها، إذ قال له: أرأيتَ لو سلكتَ مسلكاً فيه حطبٌ وشوكٌ؟ ماذا كنتَ فاعلاً؟ قال السّائلُ: أصفن ثوبي اتقاءَ الشوكِ والحطبِ، فقال ترجمان القرآن: كما تتقي الشوك أن يصيبك، اتق اللهَ سبحانه أن يصيبك غضبُه.

من حكم الصوم: الخير

ربّما لم تمتلئ آياتٌ بالحِكَم بمثل ما امتلأت هذه الآيات، إذ بعد بيان أنّ التقوى مقصود من مقصودات الصّيام، أردف ذلك بقوله سبحانه: “وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون”. ذلك يعني أنّ الصوم – وهو فَطْمُ النفسِ عن هواها أكلاً وشرباً ولذّةً – يجلب معه إلى الإنسان الصّائم خيراً، ولكن ما هو الخير؟ الخير: قِيمةٌ عامّةٌ مطلقةٌ كليّةٌ تشمل كلّ أنواع الحُسنى مادّةً ومعنًى. عندما يصوم الصّائم فإنه يصيب خيراً، إذ يُعمِّق إيمانه بالغيب بإله لا يراه ولا يسمعهن وبذلك يتميّز عن الدّابّة التي لا تؤمن سوى بالمحسوس الملموس. وعندما يصوم الصّائم فإنه يملك زمام نفسه، ولا يدعها ترعى كلّ ما تهوى بدون ضابط ولا حارسٍ أن تختلط بالأنعام. ذلك أنّ الدنيا خلقت لنا فتنة وتسخيراً، فإمّا أن نحسن رياضة أنفسنا حيالها، وإمّا أن نكون لها نحن عبيداً مُسخَّرين. الصّومُ عبادة تشحن الإرادة وتغذي مناسيب الصبر، والصّبر يحتاج إليه كلّ إنسان بغض النّظر عن دينه في هذه الحياة، إذ أنّ الصبر مَظِنَّةُ الفوزِ والنجاحِ في الدنيا، أمّا الطيش والهجوم على الشهوات، فهو مظنّة الإخفاق والفشل. الصّوم خيرٌ بدنيّ صَرفٌ، كما أثبت ذلك الأطباءُ الذين ينصحون بعض مرضاهم به. وفي الجملة، فإنّ الغرض هنا ليس إحصاء الخير الذي يثمره الصّيام، إنّما الغرض هو القول بأنّ الصوم خير، ولا يأتي إّلا بخير: طاعةً للهِ، ورياضةً للنفس، وتعبئةً للصبر، وشَحناً للإرادة، وعافيةً في البدن، وغير ذلك ممّا لا تكاد تحصى أطرافُه. وبذلك فضّل النظم القرآنيُّ البديعُ أن يعبّر عن كلّ ذلك بلفظِ الخير، لتشمل كلّ جوانب الخير، ممّا علمنا وممّا لم نعلم.

لماذا نصوم رمضان … وليس شعبان؟

هذا سؤال آخر مهمّ، ألم يعلِّمنا القرآن الكريم أنّ السؤال هو طريق العلم ومفتاح الرسوخ فيه؟ وذلك عندما عرض علينا أسئلة عظمى لا تقليدية من لدن إبراهيم عليه السّلام. إذ سأل ربّه قائلا: “ربّ أرني كيف تحيي الموتى” ومثله حفيده موسى عليه السلام، إذ سأل قائلا: “ربّ أرني أنظر إليك”. لماذا نصوم رمضان؟ سؤالٌ أجاب عنه القرآن الكريم نفسه كذلك، وذلك في قوله سبحانه: “شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للنّاس وبيّنات من الهدى والفرقان”. سياق الكلام هو أنّ الله كتب عليكم الصّيام كما كتبه على الذين من قبلكم ليكون في شهر رمضان. وقد عيّنه سبحانه تعييناً ونصّ عليه نصًّا لا يحتمل عدا الإحكام والتفسير. ولم يقصر ذلك على ذلك، إنّما أخبرنا أنّه اختار لنا أن نصوم رمضان بسبب أنّه الشهر الذي أُنزِل فيه القرآن، ومِن ذا حقيق علينا أن نقول إنّنا نصوم رمضان احتفاءً بالقرآن، واحتفالاً بالقرآن، وتعظيماً للقرآن، فهو شهر القرآن بامتياز شديد، وليس هذا اجتهاداً من أحدٍ، ولكنه العلم بالنّصّ القرآنيّ، أي أنّ الله اختار عبادة الصّيام لتكون في الشّهر الذي أَنزَل فيه كلامَه العظيم وذكره الحكيم. لم يختر له شهراً حراماً، وهي شهور أربعة لم يخترعها الإسلام. إنّما أقرّها، ولكن اختار له الشهر الذي شرّفه الله بنزول ذكره الحكيم فيه، كما ورد ذلك في سورة القدر. ولأجل ذلك سنّ عليه السلام سنّة التهجّد للناس، ولكن لما خاف أن يوجب ذلك على أمّته عدل عنها في المسجد، ولما جاء الخليفة الثاني – أي الفاروق عمر – أحيا تلك السنة وظلّت حيّة إلى اليوم. وستظلّ بإذن الله كذلك إلى يوم القيامة، تعظيماً للقرآن، في الشهر الذي أُنزِل فيه القرآن.

من حكم الصّيام الأخرى

حكم الصّيام ربّما تتأبَّى عن الحصر والإحصاء، مِن ذلك، بحسب ما ورد في آيات الصّيام ذاتها، أن يتربّى الإنسان على ثقافة اليسر، وفقه الترفّق بنفسه، وبالنّاس من حوله، من يدرس هذه الآيات لن يجد غيرها مكلَّلةً بقيم اليسر تكليلاً عجيباً، مِن قِيَم اليسر المذكورة هنا قوله: “أيّاما معدودات” أي أنّ الصيام ليس أمراً مرهقاً أو تنكيلاً أو تشفّياً، إنما هي أيامٌ قليلاتٌ مقدور على عدّها. وما قُدِرَ على عدّه فهو قليل، ومن تلك القِيَم كذلك عدم الشقّ على المريض والمسافر ومَنْ في حُكْمِهما مِن مثلِ حائض ونفساء وغير ذلك. إنّما يؤجَّلُ ذلك حتى تنقضي الطارئة، ومِن تلك القيم كذلك لزوم اليسر لزوماً بحِسبانِه إرادةً إلهيةً ماضيةً “يريد الله بكم اليسر” وأكّد ذلك بنفي ضدّه، إذ قال سبحانه: “ولا يريد بكم العسر”، وهو أمرٌ يشمل الحياة كلّها، وليس الصّيام فحسب. ومن تلك الحِكَم كذلك صلة الناس المحتاجين بالإنفاق، إذ قال سبحانه: “وعلى الذين يطيقونه فديةٌ طعامُ مِسكينٍ”، وبذا يرتبط الصّيام الذي يغلب عليه الطّابع الفرديّ بالإنفاق والتكافل، وهي ذات طابع جماعيّ. وبذلك يساهم الصّيام في رصّ الصفّ الواحد رصًّا يشُدُّه ليَغدُوَ ممتنعاً على الهدم والاندثار. وبذلك نرى أنّ المقصد الأسنى من الصّيام: التقوى المذكورة في رأس الآيات. وبما أنّ التقوى – مثل الخير – قيمة عامّة مطلقة كليّة، فإنّها بُيِّنَتْ فيما يلي من الآيات ذاتها لتكون مرّةً يُسراً، ولتكون مرّة أخرى تكافلاً، ولتكون مرّة أخرى تعظيماً للقرآن في شهر القرآن، ولتكون مرّة أخرى عِلماً بأنّ الصيام خيرٌ مطلقٌ عامٌّ، ولتكون مرّة تكبيراً لله وحده سبحانه أنه هو وحده المطاع غيباً، فلا يَستسلم في الأرض للطاغوتِ مُسلمٌ. ولتكون مرّة أخرى، وليست أخيرة، شكراً “لعلّكم تشكرون”. الصيام دورةٌ تكوينيةٌ تعودنا مرّة واحدة في العام، تبتدئ بمطلب التقوى، وتختتم بمطلب الشُّكرانِ.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين

السؤال الثاني: لماذا نصوم جماعة في زمن واحد ؟

أليس جديرا بنا أن نطرح هذا السّؤال ؟

لماذا نصوم مجتمعين في زمن واحد ؟

إذا كانت عبادةُ الصّيام عبادةً شخصيةً فرديّةً – وهي كذلك في جانب منها – فلماذا نُدعَى إلى ممارستها في شهرٍ واحدٍ محدّدٍ هو شهر رمضان؟ ما ضرّنا لو اختار كلّ واحد منّا الزمن الذي يناسبه صياماً؟ شهراً كاملاً متتابعاً غير مفرّقٍ؟ وليكن لهذا خارج أوقات رحلاته (في محرّم الحرام مثلا وهو شهر حرام) وليكن للآخر مِثلُ ذلك، تختار المرأة مثلا الزمن الذي لا تغشاها فيه حيضتها. وليس معنى ذلك أن يميل الصّائمُ إلى زمن يقصر نهاره تقصّياً. أليس ذلك أولى من أن يتسنّى لهذا الصّيام؟ ولكن الآخر عليه أن يقضي ذلك عدّة، ومثل ذلك على المرأة؟

سؤالٌ مشروعٌ .. وجوابٌ ينثر كِنانةَ الحقِّ نثراً

من يقرأ الكتاب العزيز مرّةً واحدةً، قراءةً جامعةً، هادئةً، متأنّيةً، متريّثةً، متدبّرةً، لا ريب أنّه يفاجأ بأنّ خطابه ظلّ يتوجّه إلى الناس – سيما من المؤمنين – بصيغة الجماعة، إذ خاطب الناس بصفة الإيمان “يا أيها الذين آمنوا” زُهاءَ تسعين مرّة كاملة، وهي جماع الأوامر والنّواهي كلّها تقريباً، وبمثل ذلك خاطب الناس، سِيَمَا في المرحلة المكية، بزُهاءِ خمسٍ وعشرينَ مرّةً أخرى كاملة، وحتى عندما خاطب الإنسان مرّتين، فإنه يخاطب الإنسان الجنس، وبمثل ذلك خاطب بني آدم في المرحلة المكية خمس مرّات كاملات، أي إنّ مجموع الخطاب بصيغة الجماعة كان زهاء عشرين مرّةً ومائةً كاملةً، الأعجبُ من ذلك كلّه أنّ الخطاب الفرديّ الشخصيّ – كما نعدّه نحن اليوم – لم يَنُدَّ عن ذلك. ذلك أنّ تلك الخطابات فيها الدعوة إلى التقوى التي هي اختيارٌ فرديٌّ شخصيٌّ، وقرارٌ يَنبُع من داخل الإنسان. ألم تسأل نفسك مرّة: كيف أكون تقيًّا مع الناس؟ عبادة الصّيام – كما يعرف كلّ واحد منّا – عبادة يغلب عليها الطّابع الفرديّ الشخصيّ بسبب أنّها عبادة تَرْكِيَّةٌ – بلسان الفقهاء – أي أنّ المطلوب من الصّائم ليس فعلُ شيءٍ، إنما تركُ شيءٍ. وأنّ الصائم يمكن أن يظهر صائما مع الناس، ولكنه مُفطرٌ عندما يختلي بنفسه، ولا حسيب عليه، ولا رقيب، عدا اللهَ سبحانه. إذا كان ذلك كذلك – وهو كذلك قطعا – فكيف نُدعَى إلى الصيام الجماعيّ في زمنٍ واحدٍ ؟! أليس أولى أن يصوم كلّ واحدٍ منّا شهراً يختاره هو، يكون فيه مُتمحِّضاً لتلك العبادة بالكلية، غير منشغل بسفر أو مرض؟ ومثل ذلك المرأة، آمنةً من غَشَيَانِ الحيضة، أو الرّضاع، أو النفاس؟ هنا نصل إلى محطّة خطيرة مهمة من محطّات طبيعة هذا الدين. هنا نصل إلى النهل من حكمة هذا الدين نهلاً يجعلنا من العابدين العلماء، وليس من العابدين الذين لا يُقيمون وزناً للعلم، هنا نعلم أنّ الله سبحانه عندما دعانا إلى الصيام الجماعيّ في زمن واحد وهو يعلم أنّ فينا من لا يتسنّى له ذلك – كما دعانا إلى التقوى مرّاتٍ وهي عمل يغلب عليه الطّابع الفرديّ الداخليّ – فإنّما يريد أن يغرس فينا غريزة الجماعة، ويحقننا بفطرة التكافل، وجِبِلَّةِ التعاون. رسالته إلينا هنا: هي أنّ المقصود من الصّيام ليس الجانب العمليّ فحسب، أي الكفّ عن الأكل والشرب واللّذة فحسب، وإنّما المقصود هو الكفّ عن شيءٍ آخر كبيرٍ، وهو الشعور بالفردانية والوحدانية والشخصانية، بما يُفضي إلى تضخّم الذات، والعلوّ، واحتقار الآخر. الأمر نفسه في الصّلاة التي دعانا إليها فرضاً مُوجَباً مرّةً واحدة في الأسبوع، فلا تؤدَّى إلاّ في جماعة، وهي صلاة الجمعة. ولكنّه، رحمةً بنا، دعانا إلى غيرها – صلاة الجماعة – ترغيباً، الأمرُ نفسُه في عبادة الزّكاة التي أمرنا فيها بالإنفاق من المحاصيل ذاتها، وبالقدر ذاته، وفي المصارف ذاتها، فلا يُعفَى حتى الفقير الذي يملك النّصاب في هذا المحصول أن ينفق منه، وله أن يأخذ الزّكاة من محصولٍ آخر. والأمر ذاته في عبادة الحجّ.

مِن ذلك – وممّا يضيق هنا الخطاب عنه – نستنبط بيسرٍ أنّ المقصد الأسنى من عبادة الصّوم – أنها عبادةٌ جماعيةٌ في زمن واحد – هو الشعور بالجماعة مِن حولك، فإذا حصل جوع في نهار رمضان نجوع معاً، وإذا حصل شِبَعٌ بعد الغروب نشبع معاً، وإذا كان يومُ عيدٍ بعد انقضاء الصيام نفرح معاً، ونبتسم معاً، وإذا حصل إنفاقٌ لزكاةِ الفِطرِ نُنفق معاً، ونستقبلها معاً، في الصلاة ترى بعينيك المصلين من حولك ومن خلفك، وهذه أَمارةٌ صريحةٌ قاهرةٌ على مراد الله سبحانه في إنفاذ الشعور بالجماعة والأنس بالجماعة. ولكنْ في الصيام لا يُرى ذلك رأيَ العينِ. ولكن تعلم أنّ المسلمين في هذا اليوم وعلى امتداد شهرٍ كاملٍ يمارسون ما تمارس أنت. وهذا يبعث فيك القوّة والأمن والسلام والعزّة بالجماعة. إذ هي أمةٌ كاملةٌ تقوم بالشعائر ذاتها، لا فرق فيها بين غنيٍّ وفقيرٍ، وحاكمٍ ومحكومٍ، وشرقيٍّ وغربيٍّ، ولا حتى بين ماضٍ وحاضرٍ، ذلك المقصد الأسنى هو من مقاصد الإسلام العظمى، وكما رأينا، يلازم العبادات الشعائرية كلَّها، وهي المعوَّلُ عليها أن تغرس في كلّ أعمالنا القِيَم الإسلامية.

من يصوم وهو يعلم أنّ أمةً كاملةً تصوم بمثل صومه، فهو يشعر بالقوّة، والأمن والعزّة، وأنّ ذلك يزيده ثباتاً على دينه، إذ الثبات على الدين مسؤوليةٌ جماعيةٌ، ألم يقل عليه السلام: “يأتي على الناس زمانٌ يكون فيه القابض فيه على دينه كالقابض على الجمر” ؟. وعندما تلبس البلاد كلّها حلّة أخرى بمناسبة شهر الصيام فإنّ المرء يشعر بالأُنس والطمأنينة، وأنه ليس غريباً ولا يأتي عجيباً. وقديما قال أهل الاجتماع: الإنسان مَدَنيٌّ بطبعه. ولذلك حرص الصحابة على التحضّر، أي لزوم الحضر، حتى عُدَّ التعرُّب – بمعناه القِيَميّ وليس الجغرافيّ – ذنباً كانوا يَستنْكِفون عنه. ألم يَرِدِ الخطابُ القرآنيُّ الكريم عن الأعراب بصيغةٍ يغلب عليها السّوء؟. يغلب عليها فحسب، وليس يشملها بالكلية. ذلك أنّهم بتعرُّبهم يحرمون أنفسهم الاستمتاع بالبعد الجماعيّ لهذا الدين.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين

السؤال الثالث: لماذا اصطفى سبحانه عبادة الصّيام له ؟

هذا سؤالٌ جديدٌ جديرٌ بالطّرح ..

لأيِّ سرٍّ اجتبى سبحانه الصّيام فحسب، ليكون له هو وحده ؟

أصل المسألة هو حديثٌ قدسيٌّ صحيحٌ، أخرجه الشيخان عن أبي هريرة عليه الرضوان، يقول فيه سبحانه: “كلّ عملِ ابنِ آدمَ له، إلاّ الصّوم، فإنه لي، وأنا أجزي به، يدع الإنسان طعامه وشرابه وشهوته من أجلي!”. الحقيقة أنّ الله سبحانه هنا أخبرنا عن السرِّ، وعن الحكمة منه. ذلك أنه قال حكمة “يدع الإنسان طعامه وشرابه وشهوته من أجلي”. ذلك هو السّر الذي جعل عبادة الصيّام ترتفع إلى هذه الدّرجة العظمى التي لم يخصّ بها الله سبحانه أيّ عبادة أخرى. إذ لم يرد أنه قال عن أيّ عبادة أخرى أنها له.

أليست كلّ العبادات له وحده سبحانه ؟

أجل، ذلك هو الأصل العامّ، ولكنّ تخصيص الصّيام بذلك يعني أنّ عبادة الصّيام هي العبادة الوحيدة التي تغرس الإخلاص في النّفس، غرساً يتأبَّى على الانتزاع، مهما شغب الشيطان شَغَباتِهِ وراودتِ الدنيا بحُطامها الإنسانَ. الإخلاصُ مطلوبٌ في كلّ عبادة، ولكنّ العبادة الوحيدة التي لا يغشاها رياءٌ أبداً مطلقا هي عبادة الصّوم، إذ كيف يعقل أنّ إنسانا يصوم لأجل الناس؟ من يصوم لأجل الناس سيفطر في أوّل فرصة يختبئ فيها عنهم أو يغيبون عنه. ومِن ذا، فإنّ الصيام هو العبادة الوحيدة التي تجعل المرء الصائمَ لا يأكلُ ولا يشربُ ولا يستمتعُ بما أحلّ الله له وهو يعلم ألاّ رقيب عليه عدا ربّه وحده سبحانه. ذلك يعلّمنا أنّ الله يحبّ منّا الإخلاص حبًّا لا مثيل له، وذلك يعلّمنا أنّ الله سبحانه لا يطلب منّا أن نبخع أنفسنا أو نقتلها رهقاً لأجل هداية الناس أو عمارة الأرض، لأنّ ذلك متعذّر بالكلية. ودونه الذي دونه. ولكنّه يريد منّا إخلاصاً فيما نقول، ونعتقد، ونفعل، ونعمل، ونأتي، وندع. على نحو تكون حياتنا خالصة له هو وحده سبحانه، ذلك هو معنى أنه اجتبى سبحانه العبادة التي لا يداخلها الرّياء أبداً مطلقاً لتكون له هو وحده سبحانه. وهو الذي يجزي عليها ثواباً لا يتصوّره عقلٌ، إذ لولا أنّ تلك العبادة هي التي تحصّن الإنسان من غوائل الشرك والرّياء وصرف أيّ جزء من الحياة لغير الله سبحانه، لما قدّمها ذلك التقديم الذي يجعل المرء سائلاً عن ذلك السرّ. ومن علامات ذلك، أنّ الحديث قُدْسِيٌّ. بل إنه متفق عليه بين الشيخين. ورواه أبو هريرة عليهم جميعاً الرّحمة والرّضوان. كلّ عمل ابن آدم له، لا تعني أنّ الشرك يمكن أن يداخل بقية الأعمال والأقوال والعبادات بلا حرج، كلاّ، ولكنّ ذلك يعني أنّ بقية العبادات يغشاها الشرك الأصغر، أي الرّياء. وقد فصّل ذلك حجة الإسلام الغزاليّ في سِفْرِهِ الفريد: (إحياء علوم الدين) إذ بيّن أنّ الرّياء المنكور هو الذي يكون ضربة البداية في كلّ عمل، أي تكون الطُّويّةُ منذ البداية متمحِّضةً لغير الله سبحانه، أمّا ما يشغب على العامل من بعد ذلك – أي من بعد إفراد العبادة لتكون لله وحده خالصة نيّة معزّرة – فلا عبرة به، إذ لا يكاد يَسلمُ منه بشرٌ عدا المعصومين عليهم السّلام جميعا من الأنبياء والمرسلين. إذ يصلّي المصلّي وقد يغشاه الشيطان ليُحسِّن صلاته بحضرة الناس، أو يحسّن قراءته إذا كان إماما. أو قد ينفق ويغشاه الشيطان ليجعل منه مرائيا. وغير ذلك من شَغَباتِ الشيطان ومراودات النفس وشهوات الدنيا. إلاّ الصيام، فلا سبيل لأيّ رياء أو شرك أصغر عليه، بسبب أنّه عبادة قلبية، باطنية، داخلية، سرّية. أي تَرْكِيّةٌ خالصةٌ. ويمكن لكلّ صائمٍ إن شاء رياءً أن يختفي عن أعين الناس ليأكل أو يشرب، ثم يخرج للناس وهو معهم صائم مثل صومهم. ولا ينكر عليه أحد، لأنه لم يره أحد. ذلك هو المعنى المهمّ المقصود من اصطفاء الله سبحانه لعبادة الصّيام دون سواها له وحده سبحانه. وذلك يعلّمنا قيمة الإخلاص الذي نحتاجه في حياتنا الخاصّة والعامّة كلّها.

أيّ حاجة لقيمة الإخلاص ؟

الإخلاص في الحياة إخلاصان: إخلاص الاعتقاد، الذي بدونه يغدو المرء مشركاً، وذلك هو الأمر الذي وقع فيه المشركون الذين قالوا تبريراً مُسِفًّا لشِركِهم: “ما نعبدهم إلاّ ليقرّبونا إلى الله زُلفَى”. وذلك هو الخيط الرّفيع الدّقيق بين الإيمان الصّافي من كلّ شائبةِ شركٍ مهما دقّت وضعفت ورقّت، وبين الإيمان المشرك الذي قال فيه سبحانه في آية مخيفة: “وما يؤمن أكثرهم بالله إلاّ وهم مشركون”، ذلك الإخلاص الأوّل الأعظم، وهو المطلوب الأوّل، إنّما يتغذى من العمل. إذ أنّ من وظائف العبادات والعمل: تزكية الاعتقادات، وتغذيتها، وتمتينها، وترسيخها، ومِن ذا كان الإخلاص الثاني هو: إخلاص العمل الذي قال فيه سبحانه في آخر سورة الكهف المكية: “فمن كان يرجو لقاء رّبه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربّه أحداً”. إخلاص العمل مطلوب، وهو قرين إخلاص الاعتقاد، وهما في الحقيقة لا ينفصلان. عدا أنّ إخلاص الاعتقاد ليس فيه أيّ رخصة، لأنّ من لم يُخلِص اعتقاده فهو مشرك بربّه سبحانه، ولا يُقبَل منه صرفٌ ولا عدلٌ كما يقولون، وإخلاص العمل لا يَخلُصُ لأيّ بشرٍ بالكلية ومطلقا، وفي كلّ زمنٍ، وكلّ عبادةٍ، وكلّ مكانٍ، وكلّ حالٍ. ولكن المقاربة والتسديد مطلوبان، وفيصل الأمر هنا هو النيّة الأولى، والطّوية الباعثة، فإن خَلُصَتْ، فقد خَلُصَ العملُ لله وحده سبحانه، حتى لو شابه الذي شابه من بعد ذلك. وتظلّ المعركة بين العابد العامل وبين شيطانه ونفسه قائمةً لا تفترُ. ولو فترت لأُحيل الإنسانُ إلى قائمة الذين خرجوا من دائرة الابتلاء والعياذ بالله.

الإنسان يحتاج إلى الإخلاصين معا، إخلاص الاعتقاد حتى تستوي شخصيتُه استواءً يجعله مستقلاًّ عن الناس، فهو يشترك معهم في الحياة، ولكنّه لا يعتمد على أحدٍ منهم، وليس هو عالةً على أيّ واحد منهم، فلا يحتاج إلى مُنافقتهم أو الاستضعاف بين أيديهم. ومَن تكون كذا شخصيته فإنه يكون إنساناً سويًّا، عاملاً فاعلاً إيجابيًّا. لا إمّعةً، أو عالةً أو ذيلا من الذيول الكثيرة. كما يحتاج المرء إلى إخلاص العمل للغرض نفسه، ولكن لغرض آخر، هو تجويد العمل، وإتقانه، وتحسينه، والتفرّغ لربّه وحده سبحانه. فمن تمحّض لأيّ عمل، فهو أدنى إلى تجويده وتحسينه، وتجميله وإتقانه، ومن كان عمله متردّدا بين هذا وذاك، فهو خِدَاجٌ، كما تقول العرب، أي مولودٌ قبل أَوَانِ ميلاده.

الإخلاصان إذن (إخلاص الاعتقاد وإخلاص العمل) لهما منافع دنيوية، ومصالح عاجلة، وبناءً على ذلك، تترتب الأَجْزِيَةُ الأُخرَوِيّةُ.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين

المقالات المنشورة بالموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي المجلس الأوروبي للأئمة