تعليقا على مقال القلق الفقهي

إدارة الإعلام

إدارة الإعلام

إذا أردنا أن ننظر للمسألة من أسسها لا من آثارها ومظاهرها وظواهرها، فسنعود إلى المنهجية والنسق المعرفي الذي قاد إلى إنتاج هذا الإرث من الأفكار والآراء التي فيها من الدرر والمَدر.
فالمنهجية والنسق المعرفي هما الوعاء، والأفكار والآراء هي نتاج لهما تجتمع في وعائهما.

لو رجعنا إلى مرحلة انطلاق المذاهب الأربعة سنجد تفريقا واضحا بين المنهجية متمثلة بقواعد وأصول وضوابط كل مذهب وبين الآراء الفقهية التي نتجت عنها.
لذلك نجد أبا يوسف محمد بن الحسن محسوبين على المذهب الحنفي، ولم تخرجهما مخالفتهما لآراء شيخهما (أبو حنيفة) في الكثير من المسائل حتى شاع أنه إذا اجتمع الصاحبان في مسألة قدم على قول شيخ المذهب.
ومعنى ذلك أنهما حول منهجية المذهب وليس حول آراء شيخ المذهب.

أبعد من ذلك وأعجب ما حصل عند الإمام الشافعي، وهو من هو في ضبط المنهجيات ووضع الأصول والقواعد، ولكن نجد هنا نفس شيخ المذهب تتغير آراؤه الفقهية بتغير المكان والزمان والأحوال والأعراف (نتيجة انتقاله من العراق إلى مصر) مع ثبات واضح في منهجيته.

وما لم يتم التوافق على النسق المعرفي فلن نخرج من التعامل الانتقائي مع الأدلة إلى الاستدعاء المعياري لها.
عناصر او عوامل بناء المعرفة الرئيسية في مجال الآراء الفقهية والأفكار والنظريات ذات المرجعية الإسلامية أربعة هي:


الوحي والدليل، الواقع، العقل المنضبط الذي يوصل بينهما، الإرث التاريخي (الآراء والأفكار)
فالعقل المنضبط يعمل على تنزيل الوحي على الواقع، أو بمعنى آخر البحث في ممكنات الوحي والأدلة المستقاة منه، لمعالجة احتياجات الواقع.
وما التجربة التاريخية إلا العنصر الرابع الذي يمكن الاستئناس أو حتى الاسترشاد بها كتجربة بشرية في التعامل بين الوحي والواقع.. وليس بجعلها محددا لممكنات الوحي أو بنقلها لسد احتياجات الواقع دون مراعاة لمتغيرات الأزمنة والأمكنة والأحوال والعادات والأعراف.

عدم مراعاة هذا النسق المعرفي – في الكثير من نتاجات المتأخرين، جعلهم يقدمون العنصر الرابع ليجعلوه حاكما على الثلاثة الأولى، وهو ما أنتج بمرور الزمن عقلية اتكائية اتكالية، اتكائية في عالم الآراء الفقهية على نتاجات السابقين، واتكالية في عالم الأفكار النظرية والتطبيقية على ما تنتجه الأمم الأخرى.
وهو ما حذر منه مالك بن نبي رحمه الله عندما تحدث عن الأفكار الميتة (المحاكاة الزمانية) و الأفكار المميتة (المحاكاة المكانية)
ولن نستطيع أن نخرج من حالة المحاكاة إلى الابتكار، ومن الاتكاء والاتكال إلى تثوير ممكنات الوحي لمعالجة احتياجات الواقع، إلا إذا ضبطنا عناصر النسق المعرفي عندنا وفرقنا بين المنهجيات والآراء في إرثنا التاريخي وتراثنا الفقهي.
وهذا سيخرجنا من ثنائية أسر التراث والغرق فيه، أو القطيعة معه وعدم الاستفادة منه كتجربة تاريخية بشرية.

والله أعلى وأعلم وأحكم.