تحدي العالم بتعاليم الوحي المحمدي.. العلامة محمد رشيد رضا

تلك عقائد دين محمد، وقواعد تشريعه، وأصول إصلاحه الاجتماعي والسياسي، مسرودة بالإجمال، مُؤَيَّدَة بشواهدها من آيات القرآن، مجردة من حلل المبالغات الخطابية، وعاطلة من حلي الخلابة الشعرية، ونحن المسلمين نتحدى الفلاسفة والمؤرخين من جميع الأمم، ولا سيما أحرار الإفرنج، بأن يأتونا بمثلها أو بما يقرب منها من تاريخ أعظم الأنبياء، وأشهر الحكماء، وأبلغ الأدباء، وأنبغ ساسة الأولين والآخرين، مع صرف النظر عن كونه كان كما شرحنا أميًّا نشأ في الأميين، وجاء بذلك كله بعد استكمال سن الأربعين، وقد بيَّنا الفرق العظيم بينه وبين موسى وعيسى أعظم أنبياء بني إسرائيل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

التنفيذ العملي

وأما تنفيذه صلى الله عليه وسلم لهذه التعاليم فقد تم في عشر سنين من تاريخ الهجرة الذي كان بدء حياة الحرية، وقد ظل يدعو إلى أصولها المجملة عشر سنين أولا بالسر، ثم بالجهر، مع احتمال الاضطهاد والإيذاء والتعذيب والتهديد بالقتل والنفي، الذي اضطر المؤمنين إلى هجرة بعد هجرة، وبعد الهجرة العامة بالتبع له، كانوا في حالة حرب وقتال مع المشركين كافة، وكذا أهل الكتاب وكان صلى الله عليه وسلم عقد معهم معاهدة بتأمينهم على دينهم وأنفسهم وأموالهم بشرط ألا يظاهروا المشركين عليه، فنقضوا عهده، وظل المسلمون مدة ست سنين مدافعين عن أنفسهم في كل قتال دفاع الضعيف المؤيد من الله للأقوياء المخذولين، وفي أواخر السادسة عقد معاهدة الحديبية مع المشركين على وضع القتال عشر سنين، ثم غدر المشركون ونقضوا العهد، فعادت حالة الحرب، وفتح المسلمون مكة عاصمة قريش الدينية والدنيوية، ومثابة جميع الأمة العربية في سنة ثمان من الهجرة، وحج النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع في آخر سنة عشر، وأنزل الله تعالى عليه فيها: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} (المائدة: 3) .

ففي عشر سنين وقع توحيد الأمة العربية التي كانت أعرق أمم الأرض في الشقاق والتفرق والعداء، وإنما كان ذلك بتأثير كتاب الله وتأييده عز وجل لرسوله كما قال: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (الأنفال: 62-63) وبما أعده تعالى له من مكارم الأخلاق وما وفقه وأرشده إليه من حسن السياسة المبينة في قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} (آل عمران: 159) الآية. وذلك أن العرب كانت أعصى خلق الله على الخضوع والطاعة والانقياد لعراقتهم في الحرية، وشدة بأسهم، وعدم وجود الملوك المستبدين القاهرين والرؤساء الروحيين المسيطرين فيهم.

فليدلنا علماء التاريخ العام على نبي من الأنبياء، أو حكيم من الحكماء، أو ملك من الملوك الفاتحين والمشترعين، رَبَّى أمة من الأمم في عشر سنين، فجعلهم أهلا لفتح الأمصار، والسيادة على الأمم الحضرية وسياستها بالعدل والرحمة، وتحويلها عن أديانها ولغاتها بالإقناع وحسن القدوة، ولا تشترط أن تكون هذه الأمة التي علَّمَها وهذَّبَها ووحَّدها رجل واحد كالأمة الحضرية وسياستها بالعدل والرحمة، وتحويلها عن أديانها ولغاتها بالإقناع وحسن القدوة، ولا تشترط أن تكون هذه الأمة التي علَّمها وهذبها ووحَّدها رجل واحد كالأمة العربية في أميتها وجاهليتها وتفرقها وتعاديها ومرور القرون عليها وهي تتوارث هذه الصفات، فأين الوحدة الجرمانية والوحدة الطليانية في عصر العلوم والفنون والفلسفة والقوانين ونظم الاجتماع والحرب، من الوحدة العربية المحمدية في عهد الأمية والجاهلية؟ بل أين الوحدة الإسرائيلية في عهد الآيات والعجائب الكونية من الوحدة العربية الخاصة، ثم الوحدة الإسلامية العامة في عهد آيات القرآن وعلومه الإلهية وبيان السنة المحمدية لها؟

ثم نفذ ذلك التشريع الأعلى، والهداية المثلى، خلفاء محمد الراشدون، وكثير من ملوك المسلمين الصالحين، بما شهد لهم به تاريخهم، واعترف لهم به المؤرخون المنصفون من الإفرنج وغيرهم، بأنهم جدَّدوا بهما الحضارة الإنسانية ورقوها، وأحيوا العلوم والفنون الميتة وهذبوها واستثمروها، وكانوا أساتذة جميع من جاء بعدهم فيها.

ثم كان من قوة هذا الدين ومتانته أَنْ عَادَتْهُ جميع أمم الإفرنج وحاربته بجميع قواتها الصليبية، الهمجية منها والمدنية، ثم بعلومها وفنونها ونظمها المدهشة، ولا تزال تجاربه وتبذل الملايين لتحويل أهله عنه، بعد زوال قوة دوله، وغلبة الجهل على شعوبه، ولم تستطع أن ترد رجلاً واحدًا عنه قد كان عرفه. أفما آن لها أن تعقل أنها لو اعترفت له بحقه، لأمكنها أن تصلح العالم كله به؟ ؟

المقالات المنشورة بالموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي المجلس الأوروبي للأئمة