تأمّل في ترابط الصيام والتقوى

الشيخ عبد الجليل حمداوي

الشيخ عبد الجليل حمداوي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه.

سياق التقوى في آيات الصيام

من عظيم رحمة الله على الأمة المسلمة أن فرض عليها الصيام وأنزل فيه آيات تبيينا لما فيه من الأحكام، وتعليلا لها ببلوغ مقصد التقوى الذي هو من أعظم مقامات الإسلام. ويجدر بمن يتدبر آيات الله أن يفقه الحكمة من جعل التقوى المقصد الأسمى للصوم الذي به تبوأ مقاما عليا بين شعائر الدين فصار من أركانه التي عليها يبنى كما صحّ عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، لأن الأعمال تتفاوت في الفضل بتفاوت صحة القصد وبركة الثمرة، وأكرم بالتقوى من ثمرة إذ بها يصحّ القصد إلى الله تعالى.

في بدء سياق الحديث عن الصوم يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة 183) وفي ختامه بعد تفصيل أحكامه يقول سبحانه: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ  (البقرة187 )، وكأن الآيتين تحدّدان للصيام بدءه ومنتهاه فلا يكاد يخرج عن مجال التقوى، فلإن كانت الأولى خطابا من الله للمؤمنين خاصة لرفع هممهم لبلوغ التقوى فإن الأخيرة تقرر لعامة الناس أن بيان الله سبحانه لما سبقها من أحكام يفتح لهم أيضا باب التقوى، لأنه “أتم البيان وأكمله ، ليعدّهم للتقوى، والتباعد عن الوهم والهوى » كما ذكر الشيخ رشيد رضا رحمه الله في تفسير المنار. زاد في ذكر وجوه تفسير الآية الإمام الرازي رحمه الله أنّ “مثل هذا البيان الوافي الواضح الكامل هو الذي يُذكر للناس، والغرض منه تعظيم حال البيان وتعظيم رحمته على الخلق في ذكره مثل هذا البيان». صار بهذا للصيام شأن في الدلالة على التقوى للمؤمن بإتيانه ولعامة الناس بتفصيل أحكامه.

نودّ من أجل هذا أن نعرف ما للصيام من خصوصية جعلته الطريق المباشر لنيل التقوى من بين ما ورد عامّا في معنى العبادة كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة 21).

مناط الكرامة في الدّنيا والفلاح في الآخرة:

قبل البحث عن التناسق المعنوي بين الصيام والتقوى، نعرض بعجالة إلى أهمية التقوى وثمرته في الدنيا والآخرة من خلال آيات الذكر الحكيم.

 في مسرح الحياة الدنيا قد جعل الله سبحانه التقوى معيار التكريم بقوله: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات13 )، واعتبرها أفضل زينة لجوهر الإنسان تفوق زينة ظاهره وذللك في قوله سبحانه: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا ۖ وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ ۚ…} (الأعراف26 ) وقطع بها سبيل الاعتماد على الظاهر من خلال قول ابن آدم عليهما السلام: {قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} (المائدة27 )، بل جعل مدار التزكية عليها في قوله: {فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ ۖ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَىٰ} (النجم32 ).

و بعد الدنيا تظهر ثمرة التقوى في الآخرة حيث ينعم أهلها في العقبى كما في قوله تعالى: {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ} (طه132 ) وقوله: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (القصص83 )، وذلك بالنجاة من النار التي تلظّى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى} (الليل17 )، وبوراثة الجنات العلى: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا} (مريم63 )، حيث يساق إليها أهلها: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا} (الزمر73) ويحشرون إلى ربهم الأعلى: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَٰنِ وَفْدًا} (مريم85 ).

من خلال هذه الآيات البيّنات يظهر جليّا أنّ المعوَّل عليه في الدّنيا والآخرة هو تقوى الله تعالى، فما معناها وما علاقة الصيام بتحقيق التحلي بها؟

الرابط بين الصيام والتقوى:

يعدّ التقوى اسما جامعا للعمل بطاعة الله فيما أمر به أو نهى عنه، وتشهد لهذا التعريف العام نصوص كثيرة من القرآن والسنة. غير أن أصلها اللغوي يرجع إلى الوقاية والحفظ، لذا فقد عرفها الراغب الأصفهاني في مفردات القرآن أنها: ” جعل النفس في وقاية مما يخاف، هذا تحقيقه … وصار التقوى في تعارف الشرع: حفظ النفس عما يؤثم، وذلك بترك المحظور”. من ذلك أنّ الله تعالى قال في اتقاء النار تخويفا منها: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ۖ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} (24 البقرة)، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ…} (التحريم 6) ومنع العدوان وجعله في مقابل التَّقوىٰ في قوله: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (المائدة 2).

 من أجل هذه اليقظة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذراً مما به بأس) رواه الترمذي عن عطية بن عروة السعدي الصحابي رضي الله عنه. وهذا ما فهمه سلف اللأمة رضي الله عنهم، فقد روي أن عمر بن الخطاب سأل أبي بن كعب عن التقوى فقال: هل أخذت يوماً طريقاً ذا شوك؟ قال: نعم. قال: فما عملت فيه؟ قال: تشمَّرت وحذرت. قال: فذاك التقوى. ولهذا الحذر اعتبر عمر بن عبد العزيز أنّ التقي ملجم، لا يفعل كل ما يريد.

هذا مما ورد في التقوى تأكيدا لمعنى الحذر والحيطة واتقاء ما يُخاف حفاظاً على ما يراد. فما علاقة هذا بالصيام؟

يرجع مصطلح الصيام في اللغة إلى الإمساك، ولذلك كان من أعظم مولّدات الصبر الذي هو حبس النفس عن المحظور، فقد قالَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ “الصومُ نِصفُ الصَّبرِ» أخرجه الترمذي عن رجل من بني سليم.

و عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “الصِّيَامُ جُنَّةٌ» رواه البخاري ومسلم. في هذا الحديث تُرك ذكر متعلَّق جُنَّة ليُحمل على كلّ ما يناسبه من أنواع الوقاية المطلوبة، بدءاً من الوقاية من الإفراط في تناول المباحات حتّى اقتضى الصوم تحريم بعضها في وقته تدريبا للنفس على الوقاية من الوقوع في الآثام بل من مجاراة السفهاء، فقد روى النسائي بسند صحيح مرفوعا: “… فمن أصبح صائما فلا يجهل يومئذ وإن امرؤ جهل عليه فلا يشتمه ولا يسبه وليقل إني صائم». ومن أعظم ثمرات الوقاية من الإفراط في المباحات والتساهل في إتيان المحرّمات الوقاية من الوقوع في عذاب الآخرة، فعَنْ أَبي سَعيدٍ الخُدْريِّ رَضيَ اللَّه عنهُ قال: قالَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “مَا مِنْ عبْدٍ يصُومُ يَوماً في سبِيلِ اللَّه إِلاَّ باعَدَ اللَّه بِذلك اليَومِ وجهَهُ عَن النَّارِ سبعينَ خرِيفاً» متفقٌ عليه

بالصوم يسمو العبد في معارج الحرية بأن يتمكن من الإحجام عما يشين كرامته وكرامة غيره، فلا يصير أسير هواه وشهواته وغضبه وطمعه، بل راعيا لحقوقه وحقوق غيره غيرَ معتد عيها لأنَّ {اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (البقرة 190). بل: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} (آل عمران 76).

جعلنا الله وإياكم من المتقين. آمين

أخوكم عبد الجليل حمداوي