المشروع الموحد لمواقيت الصلاة في أوروبا واستعادة أمل الائتلاف والوحدة

د. خالد حنفي

د. خالد حنفي

كان الشيخ عبد المعز عبدالستار رحمه الله تعالى يقول:” المساجد هي مصانع التوحيد” يقصد أنها تحقق الوحدة الإسلامية في أعلى درجاتها حيث تختفي القوميات والعنصريات والجنسيات والألوان والأعراق في صفوف المصلين بالمساجد، وأذكر أني سمعت من الدكتور/ أحمد الخليفة أستاذ تاريخ الإسلام في أوروبا بالكلية الأوروبية للعلوم الإنسانية بفرانكفورت أنه عندما قدِم طالباً لدراسة الماجستير في ألمانيا سافر 600 كيلو ليصلي الجمعة في المركز الإسلامي بآخن مسجد بلال وأنه أجهش بالبكاء عندما رأى عن يمينه مسلماً ألمانيا ببشرته البيضاء، وعن شماله مسلماً إفريقيا ببشرته السوداء وكيف جمعهم الإسلام في المسجد وآخي بينهم في المسجد رغم اختلاف ألسنتهم وألوانهم.

هذه الصورة المثالية الرائقة الرائعة تراجعت كثيراً وربما اختفت تقريباً من الساحة الأوربية بل وقع عكسها أحيانا في بعض المدن والمساجد؛ إذ اتسعت دائرة الاختلاف حول مواقيت الصلاة بين المساجد والأفراد والمدن، وقد بلغت نظم وطرق حساب مواقيت الصلاة في أوروبا قرابة 13 نظاما وبين الأعلى والأدنى منها أكثر من ساعة، والإشكال الأكبر عندما يقع هذا الخلاف داخل المسجد الواحد، وقد نُقل لي عن أحد الأئمة أن جماعة مسجده تصلي الصبح في رمضان على درجة حسابية مبكرة، بينما تتسحر مجموعة من المصلين في مؤخرة المسجد لأنها تعتمد درجة متأخرة، وأكبر من هذا الإشكال هو إنكار الفريقين على بعضهما، فالذين يُصلون يعتبرون صوم الذين يأكلون باطلاً لدخول الفجر وبدء الصيام، والذين يتسحرون يعتبرون صلاة الذين يصلون باطلة لأن الوقت لم يدخل بعدُ حسب زعمهم!!، وقد شهدتُ بنفسي حالة طلاق بين زوج وزوجته لاختلافهما حول وقت الفجر والإمساك في رمضان، كما عاينتُ غير مرةٍ حيرة الأطفال وترددهم في رمضان بين إمساكية: )بابا( وإمساكية )ماما(.!!

 وقد شُغل العقل الفقهي والمؤسسات الإسلامية في الغرب بقضية حساب مواقيت الصلاة خاصة في المناطق والدول ذات خطوط العرض العليا مبكراً، فيعتبر أول مؤتمر علمي عُقد لبحث هذه القضية هو مؤتمر علماء حيدر آباد دكن (1928)م، وقد تتابعت المؤتمرات والندوات والمشروعات والمقترحات الفردية والجماعية لحل هذه المشكلة حتى عقد مؤتمر استانبول الأخير في الفترة من 19 – 20 صفر 1443 هـــ الموافق 26 – 27 أيلول 2021 م.

واقع وأسباب الاختلاف حول المواقيت في أوروبا

مساحة الاختلاف في طريقة حساب مواقيت الصلاة في أوروبا كبيرة جداً؛ لوقوعها بين المساجد والمؤسسات التركية، وبين المساجد والمؤسسات العربية، وبين العربية والتركية، ولا يعكس هذا الاختلاف روح الدين أبداً، ولا يجسد واحداً من مقاصد الصلاة العامة وهو: تقوية آصرة ورابطة الأخوة بين المسلمين، ويعود الاختلاف حول المواقيت في أوروبا إلى جملة من الأسباب أهمها:

  1. غياب السلطة الملزمة: قضية المواقيت كالهلال وتحديد الأعياد الدينية قضية سلطانية قبل أن تكون فقهية أو فلكية؛ فالاختلاف حول المواقيت خاصة الفجر واقع في البلدان العربية والإسلامية وهناك من يشكك في صحتها ويعتقد أن المعمول به في تلك البلاد خطأ وأنه يترتب عليه بطلان صلاة الفجر لأدائها قبل دخول وقتها شرعاً، ومن هذه البلاد: السعودية، ومصر، والمغرب، والأردن، وتركيا وغيرها، وهناك مشاهير من العلماء يخطئون حساب صلاة الفجر في بلدانهم ويطالبون الناس بالتأخر عنها عشرين إلى ثلاثين دقيقة، كالشيخ الألباني والشيخ ابن عثيمين رحمهما الله، لكن هذا الخلاف لا يظهر للناس وربما لا يعلم به عامتهم لوجود السلطة الملزمة للجميع بهذا الاختيار المعمول به من قِبل كل المساجد، وغياب هذه السلطة في الغرب نتج عنه تعدد السلطات والمرجعيات حتى وصلت للعشرات وصارت كل جمعية أو تجمع وربما مسجد أو إمام يقوم باختيار الدرجة الحسابية التي يراها راجحةً بالنسبة له ويعمل بها ويخطىء من يخالفها، وغياب السلطة جعل هذه المسألة وغيرها جذعة يتجدد الاجتهاد والخلاف حولها بصورة دائمة حتى وإن صدر هذا الاجتهاد من غير أهله وفي غير محله. رغم أن عدم تدخل السلطات في الشأن الديني للمسلمين في أوروبا يعتبر مزيةً كبرى بالنسبة لهم وفرصةً يجب استثمارها بدلا من الاختلاف والتفرق بسببها؛ لهذا فإنَّ طرح أى مشروع يحل مشكلة المواقيت يجب أن يستبطن هذا البعد وأن تكون سلطة الإلزام بالمشروع هي مناسبته لظروف الناس، وظهور أدلته الشرعية، وتوقع قبول أغلب المراكز والمساجد به، وقبل ذلك إخلاص القائمين عليه والمبادرين به وتآلف قلوبهم.
  2. اجتهادية المسألة وعدم قطع الشارع فيها: قضية مواقيت الصلاة وحساباتها قضية اجتهادية ليس هناك نص قاطع فيها، والخلاف فيها مراد للشارع والعلم عند الله؛ تيسيراً على الناس ورعايةً لاختلاف ظروفهم وأحوالهم؛ يدل على هذا نصوص المواقيت خاصة الفجر ولنتأمل قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] ومفهوم التبين والفجر والإسفار لغةً وشرعاً لا يعطي تلك الحدية والقطعية في معرفة دخول الوقت كما يسعي البعض لبلوغ ذلك، واختلاف الفقهاء في تحديد وقت الفجر والعشاء والعصر دليل آخر على اتساع مساحة الاجتهاد، والنصوص الواردة عن تسحر النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة وتأخيرهم الشديد له حتى يسفر الفجر جداً، مع نصوص صلاته الفجر بغلس تؤكد أيضا على كون المسألة اجتهادية لا قطع فيها. ثم اختلاف الفلكيين في درجة الفجر الصحيحة والتي يجب العمل بها، وكذا اختلاف الدول العربية والإسلامية في درجة الفجر التي يأخذون بها بين 18 درجة و 20 درجة، ومن رحمة الله بنا وجود هذه المرونة التي تسهل علينا الاجتماع والاتفاق واختيار الأيسر والأرفق بالناس.
  3. اعتبارها عنواناً لهوية المؤسسات والمراكز الأوروبية: تسعى الاتحادات والراوبط الإسلامية في أوربا إلى التصدر والتمثيل للمسلمين في مناطقهم وتحرص على وجود هوية وسمات تميزهم عن الروابط والاتحادات الأخرى، ومواقيت الصلاة أحد السمات التي تتسابق المؤسسات للاختلاف بشأنها؛ لأنها إن اتفقت على خيارٍ جامع لكل الهيئات فقدت جانباً من هويتها المعروفة بها والمميزة لها عن غيرها، لهذا تحرص على التمسك بخيارها الفقهي والفلكي وإن ألبسته لباس الاحتياط الشرعي للعبادة أو التوافق مع دراستها للمسألة وقناعتها العلمية بها، وهذا يعقد من أمر الاتفاق والاجتماع بطبيعة الحال.
  4. تعدد الخيارات والاجتهادات واشتغال الفلكيين بعمل الفقهاء: صوتُ الفلكيين في هذه المسألة أعلى من صوت الفقهاء، وتراهم يرجحون ويختارون ويبطلون العبادة دون ترددٍ وأحيانا يُكرهون الفقهاء على السير وراءهم، رغم أن الأصل أن يكون الفقيه هو مرجعية الفلكي وأن يقتصر دور الفلكي على ترجمة معيار الفقيه إلى درجة حسابية منضبطة، وقد نتج عن هذا التداخل أنْ تحولت المسألة الظنية الاجتهادية إلى حدية قطعية بمخالفة مراد الشارع كما أشرنا، كما أن تعدد الآراء وكثرتها أوجد حالة من الفوضى جعلت الناس يختارون ويفاضلون بين النظم والدرجات كما يشاؤون.
  5. عدم رعاية أغلب الاجتهادات لطبيعة ونظام الحياة في أوروبا: رغم كثرة الاجتهادات وتعددها على الساحة الأوربية إلا أنها لم تحل المشكلة ذلك أن النظم والطرق القائمة يمكن تقسيمها إلى مجموعتين: الأولى: توسعت في التقدير لوقتي الفجر والعشاء رغم وجود علامتيهما ورغم إمكان الالتزام بهما دون حرج ومشقة، والثانية: شدَّدت في الالتزام بالعلامات حتى إذا ترتب على الالتزام بها حرج ومشقة، وكلاهما لا يحل الإشكال بل يعقده؛ ذلك أن الأولى شكَّكت الناس في العبادة بسبب الخروج عن الأوقات والعلامات دون سبب، والثانية لم تناسب ظروف الناس ومعايشهم. ولهذه الأسباب كان التفكير في مشروع جامع وموحد لكلمة المسلمين في هذه القضية التي ملأت الدنيا وشغلت الناس.

المشروع الجديد. خطوات ومراحل العمل

بدأ التفكير في هذا المشروع في الثاني عشر من شهر مارس/ آذار 2016م، بعد الندوة العلمية التي نظمتها لجنة الفتوى بألمانيا والتابعة للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث وكان موضوعها: «حساب مواقيت الصلاة في ألمانيا ومدى إمكانية توحيد درجتها الحسابية»، والتى شاركت فيها رئاسة الشؤون الدينية التركية، وعدد من أعضاء المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، والمراكز والمؤسسات الإسلامية في الغرب، وجمعية ملي جروش في ألمانيا، ثم حملت رئاسة الشؤون الدينية التركية من بعدها راية المشروع مع المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث ونسقت مع المعنيين بالملف من الفقهاء والفلكيين، والأئمة ومسؤولي المراكز الإسلامية في الغرب، فشكلت اللجنة العلمية واجتمعت ست مرات، ونظمت ندوة مختصة في المركز الإسلامي بآخن عام 2018م، كما شكلت فريقًا للرصد من الفقهاء والفلكيين، حيث قام بثلاث رحلات رصدية: الأولى في مدينة برلين بألمانيا، والثانية في مدينة براج بالتشيك، والثالثة في محافظة بُولُو بتركيا، ولم تكن ظروف الطقس والموقع مناسبة للرصد في المرتين الأوليين، وكانت أنسب في الثالثة لهذا سُجلت نتائج الرصد في تقرير عمل اللجنة وبُني عليها في المشروع الذي أقرَّه المؤتمر. 

ثم قامت اللجنة بجمع التقاويم وطرق حساب مواقيت الصلاة المنتشرة والمعمول بها على الساحة الأوروبية، واشتغلت على تقييمها ودراستها وتحليل أوجه النقص أو الخلل فيها، أو عدم مناسبتها للواقع الأوروبي، ثم طلبت اللجنة في إعلان رسمي منشور تقديم مقترحات ومشروعات لحل إشكالية المواقيت وفق معايير حددتها، وقد قُدِّم إلى اللجنة ستة مشروعات متكاملة وبعد لقاءات مطولة وتقييم للمشروعات من جميع الجوانب انتهت إلى ترجيح مشروعٍ تم عرضه ومناقشته واعتماده في المؤتمر، وقد سُبق المؤتمر بلقاءٍ موسعٍ ضَمَّ عددًا من الأئمة ومدراء المراكز الإسلامية في الدول الاسكندنافية عبر تقنية التواصل الشبكي، وقد عُرض عليهم المشروع واستمعت اللجنة إلى ملاحظاتهم ثم عدَّلت مشروعها وفق ما ورد في هذا الاجتماع. 

 المعايير التي طُلبت في المشروع المختار

وضعت اللجنة العلمية للمؤتمر جملة من المعايير الحاكمة على المشروعات التي قُدِّمت لها والتي ترجَّح بناء عليها مشروع التقويم الموحد الذي بين أيدينا الآن، وأهم هذه المعايير ما يلي:

المعيار الأول: عدم مخالفة مقررات اجتماع استراسبورج وأهمها:

  • إذا وجدت العلامات المعتبرة شرعاً وأمكن تحديدها بالعين المجردة أو بالوسائل الحديثة ولم يوجد معها حرج ومشقة  عامةٌ غير معتادة، فلا يجوز اللجوء إلى التقدير أو تجاوز هذه العلامات، وأما إذا عدمت العلامات، أو اضطربت، أو وُجدت وتحقق الحرج في أداء العبادة عليها، فحينئذ يصح اللجوء إلى التقدير في كل تلك الصور. ويقصد باضطراب العلامة: زيادة ظهور علامة العشاء على ثلث الليل الشرعي مثلا، أو الانتقال المفاجئ للأوقات بين يومين.
  •                          ب‌-      الفجر حسب تعريف الفلكيين هو: اطلالات الضوء الأولى الممتدة فى الأفق نتيجة انكسار وتشتت أشعة الشمس عند وصولها إلى الدرجة 18 تحت الأفق الشرقي.
  •                          ت‌-      لابد أن يتحقق في مشروع التقويم الضوابط التالية:
  • الالتزام بأوقات الصلاة ما وجدت علاماتها قدر الإمكان.
  •                        ii.           رعاية خصوصيات المسلم الأوربي بالتيسير ورفع الحرج، وتحقيق المقاصد الكلية والجزئية.
  •                      iii.           جمع كلمة المسلمين وتجنب تعدد المواقيت فى المدن والأقطار.

المعيار الثاني: الأيسر على الناس والأرفق بهم: فإن الأقليات يجب أن تؤخذ بفقه يراعي خصوصياتهم ونظام حياتهم وأعمالهم، ويجب أيضا أن يلاحظ حركة التدين وواقعه لدى الأجيال الجديدة من أولاد المسلمين، وأن يؤخذ بأفضل السبل وأيسرها لتمكين المسلم الأوروبي من العيش بدينه، ما دمنا نتحرك في الدائرة الاجتهادية المرنة لا القطعية الصلبة.  

المعيار الثالث: إمكانية التأصيل له شرعاً: لأننا في مسألة عبادية والاجتهاد فيها يجب أن يستند إلى دليل شرعي معتبر، وقد قُدمت للجنة مشروعات مقبولة من الناحية الفلكية لكنها تفتقر إلى التأصيل الشرعي لها.

 المعيار الرابع: الاتساق وعدم الاختلاف أو الاضطراب في التطبيق بين دولة ودولة أو مدينة ومدينة، أو الصيف والشتاء، وإمكانية التطبيق والحساب بدون تعقيد لكل المدن والمناطق، بحيث يكون المشروع عالمي التنزيل والتطبيق، وقد رفضت اللجنة بعض المشروعات لعدم اتساقها أو إمكان تطبيقها في بعض المناطق واستحالة العمل بها في مناطق أخرى.

المعيار الخامس: الأجمع للكلمة والأكثر قبولاً وسط دوائر أوسع من المراكز والجمعيات والمؤسسات الأوروبية، وإنما يُعرف ذلك بالنظر في تجارب العمل بالتقاويم الحالية في مختلف البلدان والأقطار الأوروبية، وأيها أكثر توافقا مع حياة الناس وأعمالهم وأولادهم. 

المعيار السادس: الأقل تقديراً لرفع الحرج حالة وجود العلامة؛ ذلك أن الأصل هو الالتزام بالعلامات الشرعية لأوقات الصلاة ما وجدت قدر الإمكان، ولهذا فإن المشروع الموحد يقلل التقدير مقارنة بغيره من النظم الأخرى.

المعيار السابع: تجنب القفزة. وذلك بالانتقال السلس وعدم تثبيت الأوقات لفترات طويلة أو الانتقال المفاجىء عند غياب العلامة أو اضطرابها؛ ولهذا فإن التقدير يبدأ قبل غياب العلامات بأيام ويستمر بعدها بأيام لتحقيق هذا المعيار المهم.

خلاصة المشروع ومستنده الشرعي

  •  الفجر وهو -كما تم قبوله في اجتماع سترازبرغ- بياض معترض في الأفق الشرقي- يدخل إذا اقتربت الشمس إلى الأفق ب 18- درجة، واعتماد الدرجة 18  للفجر في غالب أيام السنة هو كسبٌ مهم للمشروع؛ لأنها الدرجة التي عليها أغلب الفقهاء والفلكيين والمقبولة لدى عموم الناس، والتي عليها أغلب البلدان في العالم العربي والإسلامي، وهي تحقِّق الاحتياط لعبادة الصيام أكثر من غيرها.
  • العشاء يدخل بغيبوبة الشفق الأحمر في الأفق الغربي، وهي تتحقق بنزول الشمس تحت الأفق ب 17 درجة، ثم عُدلت درجة العشاء إلى 16  من قبل لجنة المتابعة بعد مقترحات ومراجعات ومناقشات؛ لتوافقها مع بعض الرصدات القديمة والحديثة، ولأنها تحقق التيسير أكثر على الناس.
  • يقسم الليل الشرعي (ما بين الغروب وطلوع الفجر  الصادق) إلى ثلاثة أقسام متساوية: بعد الجزء الأول: يدخل وقت العشاء، ويدخل وقت الفجر بطرح الثلث من الشروق، وذلك إذا غابت العلامات الشرعية أو ترتب على الالتزام بها حرج ومشقة.

بقي عندنا سؤالان وهما: لماذا اعتماد طريقة التقدير على ثلث الليل الشرعي وما سندها؟ وهل يجوز التقدير مع وجود العلامات الشرعية للصلوات؟

وجواب السؤال الأول: أن طريقة ثلث الليل الشرعي تعتمد على نص شرعي وهو الحديث الصحيح المروي بصيغ مختلفة كقوله صلى الله عليه وسلم: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة، ولأخرت صلاة العشاء إلى ثلث الليل».[1] ، وروي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنه قالت: «أَعْتَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالعِشَاءِ حَتَّى نَادَاهُ عُمَرُ: الصَّلاَةَ نَامَ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ، فَخَرَجَ، فَقَالَ: «مَا يَنْتَظِرُهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ غَيْرُكُمْ»، قَالَ: وَلاَ يُصَلَّى يَوْمَئِذٍ إِلَّا بِالْمَدِينَةِ، وَكَانُوا يُصَلُّونَ فِيمَا بَيْنَ أَنْ يَغِيبَ الشَّفَقُ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ الأَوَّلِ».[2]، وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: مَكَثْنَا ذَاتَ لَيْلَةٍ نَنْتَظِرُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِصَلَاةِ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ، فَخَرَجَ إِلَيْنَا حِينَ ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ، أَوْ بَعْدَهُ، فَلَا نَدْرِي أَشَيْءٌ شَغَلَهُ فِي أَهْلِهِ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ، فَقَالَ حِينَ خَرَجَ: «إِنَّكُمْ لَتَنْتَظِرُونَ صَلَاةً مَا يَنْتَظِرُهَا أَهْلُ دِينٍ غَيْرُكُمْ، وَلَوْلَا أَنْ يَثْقُلَ عَلَى أُمَّتِي لَصَلَّيْتُ بِهِمْ هَذِهِ السَّاعَةَ»، ثُمَّ أَمَرَ الْمُؤَذِّنَ فَأَقَامَ الصَّلَاةَ، وَصَلَّى. [3] . وفي مسند أحمد بن حنبل عن أبي هريرة: « قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ” لَوْلا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي، لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلاةٍ، وَلَأَخَّرْتُ عِشَاءَ الْآخِرَةِ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّهُ إِذَا مَضَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْأَوَّلُ هَبَطَ اللهُ تَعَالَى إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَلَمْ يَزَلْ هُنَاكَ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ، فَيَقُولَ قَائِلٌ: أَلا سَائِلٌ يُعْطَى، أَلا دَاعٍ يُجَابُ، أَلا سَقِيمٌ يَسْتَشْفِي فَيُشْفَى، أَلا مُذْنِبٌ يَسْتَغْفِرُ فَيُغْفَرَ لَهُ».[4]

والشاهد في تلك الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر أن في تأخير العشاء إلى ثلث الليل مشقةً بحيث يشق على المكلف ويثقل عليه انتظار الصلاة أكثر من ذلك كما يدل قول عمر رضي الله تعالى عنه: «الصَّلاَةَ نَامَ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ». فيمكن القول: إن المشقة تبدأ قبل دخول ثلث الليل؛ لأن تلك الروايات المذكورة تدل على أنه صلى العشاء قبل الثلث وصرح بأنه لولا المشقة في تأخير العشاء إلى ما بعد الثلث لأخرها. قال ابن رجب الحنبلي [ت. 795ه/1393م] في فتح الباري في صدد شرحه تلك الروايات: «وهذا مما استدل به من قال: إن تعجيل العشاء أفضل؛ لأنه لم يأمرهم بالتأخير؛ بل أخبر أنه لولا أنه يشق عليهم لأمرهم، وما كان ليؤثر ما يشق على أمته، فلذلك لم يأمرهم، وكذلك قوله: “لولا ضعف الضعيف، وسقم السقيم لأخرت” فإنه يدل على أنه لم يؤخر، وإذا كان الأمر بذلك مستلزماً للمشقة فهو لا يأمر بما يشق عليهم».[5] وقال بدر الدين العيني [ت. 855ه/1451م] في شرحه على صحيح البخاري: «فدلّ الحديث على انتفاء الأمر لثبوت المشقة، لأن انتفاء النفي ثبوت، فيكون الأمر منفيًّا لثبوت المشقة. قوله: “أن أشق” كلمة: أن، مصدرية، وهي محل الرفع على الابتداء، وخبره محذوف واجب الحذف، والتقدير: لولا المشقة موجودة لأمرتهم».[6]

 وأما جواب السؤال الثاني وهو: هل يجوز التقدير مع وجود العلامات الشرعية للصلوات؟

جوَّز التقدير للصلاة رغم وجود العلامات إذا ترتب على الالتزام بالعلامات حرج ومشقة عدد من الفقهاء قديما كالقرافي والشبراملسي، وحديثاً عدد من المجامع الفقهية مثل: المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، ودار الإفتاء المصرية، والمجلس الأعلى للشؤون الدينية التركية، ومجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي، ومن العلماء المعاصرين: الشيخ محمد حميد الله، والشيخ مصطفى الزرقا، والشيخ فيصل مولوي، والشيخ علي القره داغي، ولهم أدلتهم التي يصعب ذكرها وتفصيل القول فيها في هذا السياق.

ما الجديد الذي أضافه المشروع؟ 

  1. جمع كلمة العرب والأتراك في مشروع تاريخي وعمل مشترك في عبادة تكرر في اليوم خمس مرات، وقضية تتعلق بركنين من أركان الإسلام وهما: الصلاة والصيام.
  2. أول مشروع جماعي للمواقيت تجتمع فيه هذه الهيئات والمؤسسات والشخصيات العلمائية من الفقهاء والفلكيين في تاريخ النظر الفقهي لمسألة المواقيت.
  3. جمع بين الرصد الفلكي والـتأصيل الشرعي.
  4. جمع بين الاحتياط للعبادة في درجة الفجر والتيسير على الناس في فترات الحرج والمشقة.
  5. شكل لجنة للمتابعة ترصد إشكالات التطبيق والتنزيل وتعمل على حلها وتأخذ بما هو نافع متوافق مع معايير المشروع منها.
  6. أول مشروع يستهدف توحيد كلمة المسلمين في أمر المواقيت أوروبياً، بخلاف المشروعات السابقة التي عالجت المسألة محليا ولم تخرج عن دائرة الأقطار التي وضعت لها.

هل ينجح المشروع في تحقيق الوحدة وإغلاق ملف المواقيت؟

إن القرآن الكريم ربط بين كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة فقال تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ } [الأنبياء: 92]، وقال: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ } [المؤمنون: 52]، وإن فريضة الصلاة التي تتكرر في اليوم خمس مرات تغرس في نفس المسلم معنى الوحدة والاجتماع مع إخوانه المسلمين حول العالم؛ لهذا فهو يتمثل روح الجماعة حتى إن صلى منفرداً فيقول في قراءة الفاتحة: اهدنا الصراط المستقيم، ولا يقول: اهدني.

وهذا المشروع هو فرصة كبرى للمسلمين في أوروبا أن يعبروا به عن قيم الإسلام وتمسكه بالاتحاد والاعتصام وأن يجسدوا به القاعدة الفقهية: الاتفاق على المرجوح خير من الاختلاف على الراجح، فكيف إذا كان راجحا؟

إنني متفائل جداً بهذا المشروع أن يغلق به ملف المواقيت والاختلاف حوله على الساحة الأوروبية، وسبب تفاؤلي ما رأيته في اجتماعات اللجنة العلمية وما أكد عليه كل أعضائها والممثلين للهيئات والروابط الكبرى على الساحة الأوربية وكذلك أصحاب المشروعات والمقترحات من استعداد كل واحد منهم أن يتنازل عن رأيه ومشروعه رغم قناعته به لتحقيق الوحدة ونبذ الفرقة.

متفائل ومستشرف نجاح المشروع في استعادة الوحدة التي فقدنا دهراً لما رأيته من تعطش عموم المسلمين للاتفاق وجمع الكلمة وما شاهدته من بكاء كثير منهم في الدنمارك والسويد، حتى قال أحد الأئمة: احرقوا التقاويم الأخرى وابقوا على هذا التقويم فكفانا اختلافا وتفرقا، وما قام به الاتحاد الإسلامي الدانماركي بترك مشروعهم ورصدهم وقناعتهم لتوحيد كلمة المسلمين في الدنمارك.

إنني أهيب بكل إمام ومسؤول عن مركز من المراكز في أوربا أن يبادر للعمل بهذا التقويم وأدعو كل مسلم في أوروبا كذلك أن لا يتردد في اعتماده، ولا يعني هذا أنه مشروع معصوم من الخطأ أو الملاحظة عليه، بل هو جهد بشري غير معصوم من الخطأ أو الاستدراك عليه، ولكنه اجتمعت فيه شرائط القبول والعمل به وتفويت فرصة العمل به تفويت لفرصة كبرى للاتحاد والاستعادة الجزئية لمفهوم الأمة في السياق الأوروبي.

إن إغلاق ملف المواقيت بهذا المشروع يعني أن نترك تحديد أوقات الصلاة وننطلق للعمل في مشروع الصلاة ذاتها، ورفع نِسب المصلين والخاشعين في صلاتهم من المسلمين في أوروبا، يعني الاتجاه إلى مخاطر أصل التدين وجوهر الدين بحق الأجيال الجديدة من أولاد المسلمين في الغرب.

والله تعالى أسأل أن يجزي خيرا كل من بذل جهدا أو قدم وقتا أو عملاً لإنجاح هذا المشروع، وابتهل إليه أن يجمع كلمتنا على الهدى، وقلوبنا على التقى، ونفوسنا على المحبة، وان يوفقنا لعمل الخير وخير العمل، والحمد لله رب العالمين.  


[1]  سنن الترمذي، الطهارة، [رقم الحديث: 23]؛ سنن ابن ماجه، الصلاة 7 [رقم الحديث: 691].

[2] صحيح البخاري، الصلاة 24 [رقم الحديث: 569]

[3]  صحيح مسلم (1/ 442)

[4]  مسند أحمد بن حنبل، 2/72 [رقم الحديث: 967).

[5] فتح الباري لابن رجب الحنبلي، مكتبة الغرباء الأثرية، المدينة المنورة، 1996، 4/101.

[6]  عمدة القارئ لبدر الدين العيني، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 6/180.

بقلم: د/خالد حنفي. عضو لجنة المتابعة للمؤتمر العالمي للمواقيت، والأمين العام المساعد للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث.