القرضاوي باكيًا | د. عبد السلام البسيوني

د. عبد السلام البسيوني

د. عبد السلام البسيوني

رغم روح المقاتل، وهمة المنجز، وشموخ المعتز بعطاء الله تعالى له، فإن القرضاوي رحمه الله تعالى كان رقيقًا سريع الدمعة، سيالها. رأيته مرات كثيرة وهو (ينهنه) ويسيل دمعه سخينًا على مصر، وعلى الإسلام وأحوال المسلمين، وعلى موت بعض أحبته وأصفيائه، أو رقة وخشية!

رأيته يبكي بحرارة – مرات كثيرة – حين مات رفاق عمره؛ المشايخ والدكاترة: عبد المعز عبد الستار، وعبد اللطيف زايد، وعبد العظيم الديب (وهذه حكيت لي) وأحمد العسال، وكثيرين غيرهم!

وأذكر تمامًا، وكنت معه وحدي في مكتبه، وهو ينتحب على ما ابتليت به بلاد المسلمين من انكسار، وترويع، وما لقيه خيرة شبابها من استئصال مجرم، وسفك دم، واستباحة أرواح، وتنكيل وحرق لأجساد، ثم ما يلقاه أهلها من تجبر وإفقار وإذلال، فأخذ يبكي بصوت عالٍ، وانفعال ظاهر، بنبرة واجفة، ويدٍ راجفة، حتى أحسست والله بالانكسار والأسى!

وبكى وهو يذكر بعض ما حصل له في السجن الحربي، وهذا موجود على اليوتيوب!

وبكى في الجمعة، وانتحب، وهو يذكر مواقف من حال رسول الله صلى الله عليه وسلم وفقره، وعند ذكره حديث الإفك، وهذا موجود على اليوتيوب!
وبكى في غزة أثناء خطبة الجمعة، بسبب موقف حركة فتح من زيارته قطاع غزة، ودعواهم أنه يعزز الانقسام السياسي بمناصرته (حماس) وبأنه غير جدير بالجواز الفلسطيني، فقد أعطى من لا يملك (إسماعيل هنية) لمن لا يستحق (القرضاوي)! وهذا موجود على اليوتيوب!

وبكى وهو يتحدث عن صلاح الدين وحطين والجهاد، وهذا موجود على اليوتيوب!
وبكى وهو يذكر ما تفعله العصابات الطائفية الأسدية في الغوطة الشرقية وفي سوريا كلها، وهذا موجود على اليوتيوب!
وبكى وأبكى الحضور في مهرجان شكرًا تركيا؛ وهذا موجود على اليوتيوب!
وبكى غير مرة في حلقاته التي قدمها في تلفزيون الحوار، وهذا موجود على اليوتيوب!
ولا أنسى أبدًا بكاءه، ورأيه في نفسه أمام مئات ممن حضروا الملتقى الأول (التلاميذ والأصحاب) 2007، حين سمع ثناء الحاضرين، من كبار العلماء والمفكرين، ومدحهم إياه، فقال باكيًا:
إن هذه التكريمات والثناءات والمدائح التي سمعتها، لا تغرني عن نفسي، ولا تخدعني عن حقيقتي التي أعرفها أكثر من غيري: أنا أعرف نفسي – بضعفها وتفريطها وتقصيرها – أكثر من معرفة غيري لها.
وقد قال ابن عطاء الله السكندري: الناس يمدحونك لما يظنونه فيك، فكن أنت ذامًّا لنفسك لما تستيقنه منها! العاقل من لا يترك يقين ما عنده لظن ما عند الناس!
وأنا أعلم أن الله تعالى سترني بستره الجميل، ومن فضل الله علينا أنه يستر على عباده، ولم يجعل لمعاصيهم رائحة يشمها الناس! كما قال أبو العتاهية:
أحسن الله بنا أن الخطايا لا تفوحُ
فإذا المستور منا بين جنبيه فضوح
وأرجو أن يسترنا الله في الآخرة ،كما سترنا في الدنيا (اللهم آمين)!
واستمر يقول: إنني أخشى أن تذهب هذه التكريمات والثناءات والجوائز واللقاءات بأجري أو بمعظمه؛ فقد روى الإمام مسلم في صحيحه:
(ما من غازية تغزو في سبيل الله، يصيبون من الغنيمة إلا تعجلوا ثلثي أجرهم، ويبقى لهم الثلث؛ فإذا لم يصيبوا غنيمة، تم لهم الأجر كله)!
وأنا أخشى أن تذهب كلمات الإخوة من أصحاب وتلاميذ بثلثي أجري، هذه هي غنيمة العالم: أن يثني الناس عليه ويكرموه، هذه غنيمته، تذهب بثلثي الآخر؛ فإذا كانت هذه التكريمات تذهب بثلثي أجري فقد خسرت (وهنا استعبر وانتحب) وإذا كان الثلث الباقي لا يخلو من الخلل والدخل؛ فماذا يبقى للإنسان!؟
وكان مما قال بعد ذلك:
أنا والله لست قائدًا ولا إمامًا! أنا جندي من جنود الإسلام، وتلميذ، وسأظل تلميذًا أطلب العلم حتى آخر لحظة في عمري!
أعيش في نعم لا تعد ولا تحصى منذ ولدتني أمي وحتى اليوم، لو سجدت على الجمر، وصمت الدهر، وقمت الليل والنهار، ما وفيت ربي نصف معشار ما هو مطلوب مني في حق الله عز وجل!
سامحتكم فيما بدر منكم في حقي، فسامحوني فيما بدر منى في حقكم!
وختم حفظه الله تعالى كلمته برجاء من تلاميذه وأصحابه بالدعاء له بحسن العقبى؛ متمنيًا أن يختم الله له بالشهادة في سبيل الله، وأن يفارق الدنيا شهيدًا.

• وفي مقال للأستاذ محمد ثابت عن إنسانية القرضاوي: قال:
أين كل هؤلاء؛ ليروا الشيخ الذي بلغ التسعين، ولم يستطع صعود الدرج الخاص بقاعة احتفال مهرجان شكرًا تركيا خلال افتتاحه، فجلس أسفل السُّلم؛ ليبكي على حال المُسلمين المهاجرين من بيوتهم، وقد تهدمت على المُتنازلين عن حرماتهم، وبلاد ولدوا وتربوا وترعرعوا فيها؛ لمجرد أنهم قالوا كلمة حق في وجه حاكم طاغٍ ظالم؟
• ويقول د. أكرم كساب:….وأذكر أنني بعد خروجي من المعتقل وقدومي إلى قطر ثانية عام 2014م، ما إن قابلته وجلست أحدثه، حتى أخذت الدموع تنهمر من عينه، وتذكرت لحظتها كلام أحد الإخوة الكرام: كنت أعلم أن الشيخ يحبك، لكن ليس لهذه الدرجة، فما ذكرك إلا دعا لك، وأثنى عليك، وما أكثر ما بكى عند الحديث عنك!
فقلت له: ويعلم الله مدى حبي للشيخ.

• وكتب الدكتور خالد حنفي:
في اليوم التالي للقائنا مع الشيخ في منزله، كان هناك لقاء في نقابة الصحفيين، ولقيه أحد الدعاة الطيبين فسلم عليه، وقبل يده، وقال له: سل الله أن يحشرني معك.
فقال الشيخ له متأثرًا باكيًا: أسأل الله أن يحشرك مع الصالحين. لا شأن لك بي.
وأضاف: في الملتقى الثاني للتلاميذ والأصحاب في قطر، ذهبنا إلى مقر الاتحاد العالمي للعلماء المسلمين، وكان لقاء مفتوحًا ماتعًا مع الشيخ، وطرح الشيخ ونيس المبروك على الشيخ سؤالًا قال فيه: ما هو أكثر موقف أثر في الشيخ القرضاوي في حياته كلها؟
فقال الشيخ باكيًا متأثرًا، وأبكانا جميعًا غير مرة:
بعد أن أنهيت دراستي الإلزامية، كنا نحرث الأرض، مع عمي وأولاد عمي، في يوم شديد الحر، وخرجنا نشرب الماء، ونستريح في ظل شجرة على (رأس الغيط) وأخذ عمي يتحدث إليَّ أن أعمل في بقالة، أكتب الديون والحساب، أو أشرف على الأمور الحسابية لفلان في مزرعته، فإنني لا أملك مالًا لأنفق على تعليمك منه، ثم إن من يتعلم ويدرس لا يوظف؛ فما قيمة التعليم إذن؟!

قال الشيخ: وكان بداخلي مرارة شديدة؛ فكل المهن التي عرضها علي عمي لا أحبها، ولا تصلح لي ولا أصلح لها، وأنا أحب العلم الشرعي، وأعشق الدعوة؛ فماذا أفعل؟

وجاء شيخ معمم لا نعرفه ولا يعرفنا، فجلس إلينا، وقد عطش وتعب من شدة الحر، وسأل: عندكم ماء بارد؟ فجلس وشرب من (القلة) فقال له عمي: امتحن لنا هذا الشيخ الصغير!
فقال لي: أتحفظ القرآن يا ولدي؟ قلت له: سل من أي موضع شئت، فأخذ يسأل وأنا أجيب دون لحن أو خطأ، وأذكر له اسم السورة، وموضع الآية!
فبهر الرجل بما رأى وسمع، وقال لعمي: لا بد أن يكمل تعليمه الشرعي.
فقال له عمي: ولكني فقير لا أملك مالًا، ومن يتعلم لا يوظف.
فقال له الشيخ: لعل الأمور تتغير ويعمل! لا تدري كيف تصير الأمور في المستقبل!

ثم قال لي: هل تستطيع أن تعيش في طنطا بـعشرة قروش في الأسبوع (لا أذكر المبلغ بدقة)؟
فقال القرضاوي فرحًا: وبأقل من ذلك أعيش!
وقال عمه: وأنا أعمل ليتعلم الشيخ يوسف!
وتأثر الشيخ لذلك تأثرًا كبيرًا وبكى وأبكانا، ثم استطرد: فتعلمت في المعهد الأحمدي بطنطا، وصرف الله الأقدار على النحو الذي رأيتم، والحمد لله رب العالمين.

• ويقول الأخ الجزائري الشيخ محمد شنق: إمامنا يوسف سريع الدمعة وكأن أجفانه ما خلقت إلا لتدمع، و كأن الشاعر البحتري قد عناه بقوله:
غروبُ دَمْعِ مِنَ الأَجْفَانِ تَنْهَمِـــــــــلُ وحُرْقَةٌ بِغَلِيلِ الحُزْنِ تَشْتَعِـــــــلُ
ولَيسَ يُطْفِئ نارَ الحُزْنِ إِذ وَقَــــدَتْ عَلَى الجَوَانحِ إِلاَّ الوَاكِفُ الخَضِلُ
إِنْ لَجَّ حُزْنٌ فَلا بِدْعٌ وَلاَ عَجــــــَبٌ أَو قَلَّ صَبْرٌ فَلاَ لَوْمٌ ولاَ عَـــذَلُ
فَكُلُّ عَيْنٍ لَهَا مِن عَبــــــــــــــرَةٍ دِرَرٌ وكلُّ قَلْبٍ لهُ من حَسْرَةٍ شُغُــــــلُ
في لقائي الأول به، أخبرته أن شباب الجزائر يقرئونه السلام الحار، ففرح لذلك، واغرورقت عيناه دمعًا، وبادلني السلام منه إليهم، لما له من صلة عميقة ورابطة قوية مع الشعب الجزائري.

• وكتب الأستاذ الدكتور عبد الرحمن البر فك الله كربه:
………غلبت الشيخَ عيناه، وماجت نفسه بمشاعر الفرح والفتح، فأجهش بالبكاء في تأثر بالغ، وكأنه استحضر جهاد السنين الطوال، وكيف توجَّه الله بهذا الفتح المبين، فكانت دموعُه التي سالتْ، وصوتُه الذي اختنق أبلغ تعبير عن الإحساس بالنعمة والفرح بفضل الله: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا؛ هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (يونس: 58).
لقد كانت لحظة في غاية التأثير، انطلق الشيخ الجليل بعدها يتحدث عن سنن الله التي لا تتبدل ولا تتغير، والقاضية بانتصار الحق وزوال الباطل وزهوقه مهما علا زبده: (كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ؛ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً، وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرض كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ) (الرعد: من الآية 17) (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) (الإسراء) (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِق) (الأنبياء: من الآية 189)، وأكَّد الشيخُ الجليلُ أنَّ الإخوان ظلوا يعملون رغم المكائد والحيل والابتلاءات والاعتقالات؛ ليقينهم بأن كلمة الله هي بطبيعتها العليا، فثبَّتهم الله حتى أزال الطغيان بفضله بهذه الثورة الكريمة التي نأمل أن تتسع دائرتها، وتتعمق في كل بلاد المسلمين، بل في كل بلاد العالمين: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أنفسهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (فصلت: من الآية53)….. إلخ.

• وقال الصديق الصحفي الكبير محمد صبرة: قلت له في لقاء خاص بيننا: إن أكبر جزاء لنا على جهدنا الصحفي في نقل أخبارك، ومتابعة ندواتك ومحاضراتك وخطبك، أن تدعو الله لنا أن نرافقك في الجنة،
فقال: وما يدريكم أني سأدخلها؟! ربنا يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} وأنا لا أدري، إذا كنت من المتقين أم لا، ولا أدري هل يتقبل الله عملي أو لا؟!
وقد سمعت نفس الكلام من الشيخ في أكثر من مناسبة، أبرزها عندما أعلن على الملأ في دبي، يوم تكريمه بجائزة شخصية العام الإسلامية، بحضور حاكم دبي الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، وعلماء ووزراء من داخل الإمارات وخارجها، حيث قال: أنا أعلم الناس بنفسي. وذكر أنه مقصر في حق دينه.
ولو رحت أستقصي لاستغرق الأمر شيئًا كثيرًا، ويكفي من القلادة ما أحاط العنق!