القدس والمسجد الأقصى | خطبة جمعة

الحمد لله والصلاة والسلام علي رسول الله وعلي آله وصحبه ومن والاه.

القدس في القرأن

 القدس أرض مباركة نص القرآن على بركتها في عدد من المواضع منها:

بسم الله الرحمن الرحيم

{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ..}

{وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ}

{وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا}

القدس في الحديث النبوي الشريف

وردت أحاديث كثيرة في بيان فضل القدس ومكانتها وواجب الحفاظ عليها، منها:

القدس في التاريخ وشبهة اختصاص اليهود بها

عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله. أيُّ مسجدٍ وُضِعَ في الأرضِ أوَّل؟ قال: (المسجدُ الحرَام)، قلت: ثم أي؟ قال: (المسْجِد الأقْصَى)، قلت: كَمْ بينهما؟ قال: (أربعُونَ سنة) متفق عليه.

يتبين من هذا الحديث الصحيح، أن بين بناء البيت الحرام والمسجد الأقصى أربعين عاماً، ومن المعلوم أن بين إبراهيم عليه السلام مجدد بناء الكعبة بعد بناء آدم الأول- وبين سليمان عليه السلام ما يقارب الألف عام؛ مما يؤكد قطعاً أن المسجد الأقصى بُنِي قبل سليمان بمئات السنين.

وإنما كان لسليمان عليه السلام شرف إعادة البناء والتجديد الثاني؛ كما فعل ذلك أولياء الله من أنبيائه بمساجد الله ومواضع عبادته، وكما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومن بعده من خلفاء الإسلام.

ومن المقرر في القرآن أن دينَ الأنبياء واحد، وإن اختلفت تفاصيل الشريعة؛ فكلهم دعوا إلى الإسلام والتوحيد، وإلى إفراد الله – تعالى – بالعبادة، وطاعته في شرعه وأحكامه.

وهذه الأحكام تتنوع من أمةٍ إلى أمة ومن رسولٍ إلى رسول؛ لذا فإن كلَّ نبيٍّ يرثُ أرضَ الله بكلمته ورسالته؛ فهذا إبراهيمُ ولوطٌ – عليهما السلام -، وهما قبل يعقوب وإسحاق وسليمان؛ يقول الله عنهما: ﴿وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ﴾ (الأنبياء:71) قال الحسن: (هي الشام).

وهكذا تبقى فلسطين – والمسجد الأقصى خاصة – مآلها لعباد الله المؤمنين؛ من قبل أن يولد يعقوبُ (الذي هو إسرائيل) وأبوه إسحاقُ بن إبراهيم. ثم إنه بعد مئات من السنين أنجا الله – تعالى – بني إسرائيل من ظلم فرعونِ مصر، وهاجر بهم موسى – عليه السلام – من مصر إلى سيناء.

وأمرهم بدخول الأرض المقدسة لكنهم أبوا وقالوا: ﴿ فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ﴾ [المائدة: 24]، ولم يُجِبْ موسى منهم إلا رجلان فقط، وكتب الله – تعالى – عليهم التِيه في الأرض أربعين عاما؛ توفي فيها موسى -عليه السلام-؛ حتى خرج جيلٌ آخر أكثر صدقاً من آبائهم؛ فدخلوا الأرض المقدسة ضيوفاً على أهلها، وليسوا فاتحين: ﴿ وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [البقرة: 58]، قال قتادة: القرية هي بيت المقدس.

وكتب الله عليهم الإخراج إذا أفسدوا في الأرض وطغوا؛ فكان ما كتبه الله، إذ أفسدوا وطغوا؛ فأُخرِجُوا وتشرذموا في الأرض بعد ثلاثة قرون فقط.

ثم إنه بعد سنين؛ أورث الله الأرض المؤمنين أتباعَ عيسى عليه السلام؛ لأن الأرض لله يورثها من يشاء؛ فكما كانت للمؤمنين قبل بني إسرائيل؛ فقد كانت للمؤمنين بعدهم: ﴿ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ﴾ [الأنبياء: 105].

حتى أذن الله – تعالى – ببعثة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، وكان فتح بيت المقدس إحدى بشاراته صلى الله عليه وسلم – كما في صحيح البخاري -، وكانت وراثته ووراثة أمته للأرض المباركة؛ هي سنة الله الممتدة على مرِّ العصور، ومنذ عهد إبراهيمَ عليه السلام.

وكانت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالأنبياء في (بيت المقدس) ليلةَ الإسراء؛ إعلاناً بأن ما جاء به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هو كلمة الله الأخيرة إلى البشر، أخذت تمامها على يد محمدٍ صلى الله عليه وسلم وأن آخر صبغة لـ (المسجد الأقصى) هي صبغة أتباع محمد صلى الله عليه وسلم؛ فالتصق نسبُ المسجد الأقصى بهذه الأمة الوارثة.

وفي السنةِ الخامسةِ عشرة للهجرة؛ تحققت بشارة النبي صلى الله عليه وسلم؛ ودخل المسلمون (بيتَ المقدس)، وجاء عمر رضي الله عنه من المدينة المنورة إلى فلسطين، وتسلم مفاتيح (بيت المقدس) تسلماً شريفاً في قصة تكتب تفاصيلها بمداد النور.

هذا هو الطريق إلى فلسطين، دخل عمر بعزة الإسلام، ولم يهدم صومعةً، ولا كنيسةً، ولا معبدًا، ولا داراَ، بل ترك للناس دور عبادتهم، وكتب لأهل البلد عهداً وأماناً وأشهد عليه.

وعلى هذا النهج سار المسلمون إلى يومنا هذا، وشهد التاريخ أن اليهود والنصارى عاشوا أسعد فترة في ظل حكم المسلمين لفلسطين، ومارسوا عبادتهم بحرية لم يجدوها في ظل أي حكم قبله أو بعده.

إن المسلمين هم الوارثون الحقيقيون لكل شريعة سماويةٍ سابقة، وهم الأولى بكل نبي ورسول سابق، وفلسطين -تاريخاً وأرضاً ومقدساتٍ ومعالمَ- هي إرث المسلمين، دافع عنها المسلمون أجيالا بعد أجيال. وقدموا لها التضحيات تلو التضحيات، ولا يزالون كذلك لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ إِلَّا مَا أَصَابَهُمْ مِنْ لَأْوَاءَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ.

لا أحد يكره السلام ولا أحد يريد الحرب، ولكن عندما تُغتصبَ أرضٌ؛ وتُهجَّر أسرٌ؛ ويُنفى شعبٌ؛ ويُعبثَ بمقدساتٍ؛ ويُزوَّرَ تاريخٌ؛ وتُغيَّرَ معالـمٌ؛ ويقعَ ظلمٌ شديدٌ بشعبٍ ما زال يُسقى المرَّ منذ عشرات السنين؛ عند ذلك، يبلغ الظلم مداه! ولا يفت الحديد بعد ذلك الا الحديد.

إنك لتعجب من هذا العالم الذي يدعي التحضر واحترام حقوق الإنسان، كيف لا يحرك ساكنا أمام هذا العدوان السافرعلى الإنسان والمقدسات في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس.

وإن كان الأولى العجب من العجز العربي، والخذلان الرسمي، عجب ممزوج بألم وحيرة عبر عنها عمر أبو ريشة في قصيدته:

أمتي هل لك بين الأمم *** منبر للسيف أو للقلم
أتلقاك وطرفي مطرق *** خجلاً من أمسك المنصرم
ألإسرائيل تعلو راية *** في حمى المهد وظل الحرم ؟
كيف أغضيت على الذل ولم *** تنفضي عنك غبار التهم ؟
أو ما كنت إذا البغي اعتدى *** موجة من لهب أو دم ؟
اسمعي نوح الحزانى واطربي *** وانظري دمع اليتامى وابسمي
رب وامعتصماه انطلقت *** ملء أفواه الصبايا اليتّم
لامست أسماعهم لكنها *** لم تلامس نخوة المعتصم
أمتي كم صنم مجدته *** لم يكن يحمل طهر الصنم
لا يلام الذئب في عدوانه *** إن يك الراعي عدو الغنم

المسجد الأقصى
صورة أرشيفية للمسجد الأقصى

الخطبة الثانية

القدس معناه مطهر، منزه، مقدس..

ذكرها الله تعالى بالبركة في 5 مواضع من القرآن..

هي أرض النبوات، ومهد الرسالات..

ديار أيوب ومحراب داود وعجائب سليمان ومهد المسيح ومهاجر الخليل..

منتهى الإسراء ومبتدأ المعراج..

أرض المحشر والمنشر، أرض الرباط والثبات..

عظمتها الملل، وأكرمتها الرسل، وتُليت فيها الكتبُ الأربعة المنـزلة من الله – عز وجل -: الزبور والتوراة والإنجيل والقرآن..

هي قبلة المسلمين الأولى وأية المسلمين الكبرى..

أرض الطائفة المنصورة إلى قيام الساعة..

هي الأرض التي صلى فيها الرسول صلى الله عليه وسلم بالمرسلين إماما إيذانا بإمامة هذه الأمة لغيرها من الأمم.

هي التي ارتبطت بالمسجدين الشريفين الآخرين ارتباطا وثيقا محكما: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ..}

فالمبتدأ المسجد الحرام / والأقصى: المسجد الأقصى / والقصي المسجد النبوي

هذا الرباط المحكم الوثيق لا تستطيع قوى الأرض ولو اجتمعت أن تفك عراه

القدس أعظم من بلفور ووعده، وهي أشرف من كراسي الرؤساء وعروش الملوك التي يحافظ عليها أصحابها بتقديم الرشى وتضييع الحقوق والتفريط في الاقصى.

واجبنا كمسلمي أوروبا في هذه المرحلة التاريخية الصعبة:

  • إن للمسلمين في الغرب حضوراً فاعلا على الساحة الأوربية، وقد تشكلت لديهم قاعدة مادية وفكرية صلبة وشبكة علاقات قوية مع مكونات المجتمع الأوروبي المختلفة.   وواجبهم تجاه قضية المسجد الأقصى وبيت المقدس كبير، وذلك من خلال المساهمة في نقل الرواية الصحيحة حول ما يجري في بيت المقدس – كلٌّ بحسب موقعه ومساحاته المتاحة – وإظهار زيف الرواية الصهيونية التي تشوه عقول الغربيين وتحرف مواقفهم من القضية الفلسطينية العادلة.
  • التواصل مع الجهات الفاعلة في بلادنا الأوروبية الديمقراطية التي تنادي بحقوق الإنسان، فإن ما يقوم به الاحتلال في فلسطين ينافي كل المبادئ الإنسانية الأوروبية، ومن واجبنا أن تتخذ بلادنا الأوروبية المواقف المنسجمة مع قيمها ومبادئها، وأن نحرضها على ذلك بكل الوسائل القانونية الممكنة
  • تفعيل كل وسائل الدعم الإنساني لأهلنا في فلسطين عامة وبيت المقدس خاصة لتثبيتهم، بالكلمة والمقالة ووسائل التواصل الاجتماعي والمال والدعاء، ضمن القانون وعبر الوسائل الرسمية ومن خلال الجهات المختصة الموثوقة، والباب مفتوح لكل الصادقين، ولن يعدم المخلصون الوسائل.

وختاماً القدس إسلامية وستبقى إسلامية، ولا يجب أن يفت من عضدنا أو يوهن من عزائمنا ما نشهده من تآمر وخذلان، بل يجب أن نستغل هذه المناسبات لتأكيد الحقوق وتثبيت المبادئ، وربما تكون هذه الاعتداءات الصارخة فرصة لإيقاظ الأمة من سباتها. وتفعيل طاقاتها.

وليحاول كل واحد منا أن يكون وعد الله ووعد رسول الله صلى الله عليه وسلم: لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ لَعَدُوِّهِمْ قَاهِرِينَ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ إِلَّا مَا أَصَابَهُمْ مِنْ لَأْوَاءَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَيْنَ هُمْ قَالَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَكْنَافِ بَيْتِ الْمَقْدِس.

المجلس الأوروبي للأئمة

المقالات المنشورة بالموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي المجلس الأوروبي للأئمة