الفوز والخسران في ميزان القرآن الكريم (خطبة جمعة)

الفوز والخسران في ميزان القرآن الكريم

كلمة فاز في اللغة العربية تعني معاني متعددة، منها: النصر والظفر والنجاة من الشر، ومنه قوله تعالى: وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71) الأحزاب

فاز أي ظفر بالشيء ومنه قوله تعالى:

إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) سورة النبأ

وقد جاء في كتاب الله تعالى في مواضع عديدة.

فالنجاة من النار فوز كبير،: (كُلُّ نَفْسٍۢ ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ ۖ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ وَأُدْخِلَ ٱلْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَآ إِلَّا مَتَٰعُ ٱلْغُرُورِ) [سورة آل عمران: 185]

وحينما يمنُّ الله على عباده فيصرف عنهم العذاب فهو الفوز المبين حيث يرون العذاب وقد أنجاهم الله منه:”

 قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ.مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ ۚ وَذَٰلِك الْفَوْزُ الْمُبِينُ.16 سورة الانعام

وأما عند دخولهم الجنة وتقلُّبهم في نعيمها ورؤيتهم ما أعده الله لهم فيها، فهو الفوز الكبير.

” إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) سورة البروج

وإذا كان نعيم الجنة في صُوَره الحسية من أكبر ألوان النعيم،  فإنَّ رضوان الله تعالى أعظم وأكبر،  لذلك قال تعالى:

” قَالَ اللَّهُ هَٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ۚ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [سورة المائدة: 119]

هذا هو فوز الآخرة حيث لا خسران بعده، ولا كدر ولا خوف، ولا قلق ولا أرق.

فما هي نظرتنا للفوز في الدنيا؟

للفوز في الدنيا قيمته وسعادته وفرحته التي تتجلى على الوجوه، فإذا ضاحكة مستبشرة، وعلى الجوارح فإذا هي تسرح وتمرح، وعلى العيون فإذا هي تبرق وتُشرق.

 حينما يفوز طالب بجائزة تتويجاً لجهد بذله وعرق تَصبَّبَه، أو يفوز تاجر في صفقة، أو يفوز نادي رياضي في مباراة لكرة القدم كما شاهدنا في المونديال الأسابيع المنصرمة، فرحةً تعم أرجاء الملعب، وسعادةً خلف الشاشات تغمر الملايين، إنها فرحة فطرية طبيعية.

غير أن ساعة الفوز العاجلة في حياة المسلم   منضبطة بمجموعة من المعايير، منها:

– أن ساعة الفوز في الدنيا تذكرنا بلحظة التبشير بالجنة حينما نخرج من هذه الحياة .

” إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ (30) سورة فصلت.

– حينما يعلم الطالب أنه حاز المرتبة الأولى، عليه أن يتذكر يوم ينادَى عليه ليأخذ كتابه بيمينه يوم تطاير الصحف .

فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) سورة الحاقة

والفوز الجميل في الدنيا ليس في مباراة فقط، ولا في مسابقة، ولا صفقة فقط، فأكبر الفوز: الفوز على الشهوات وكبح جماح الغرائز. فمن انتصر على نفسه فهو الفائز، ومن كظم غيظه فهو الفائز، ومن عفا وهو قادر فهو الفائز، ومن قاوم شح نفسه وأعطى من خير ماله في وجوه الخير فهو الفائز.

– فوزنا في الدنيا في أى ميدان منضبط بالوسيلة الشريفة، فلا نقبل أن نأخذ حقنا بالحيلة غير الشريفة،

– فوزنا في الدنيا لا يُطغينا ولا ينسينا حاجتنا إلى عون الله وتوفيقه.

– فوزنا في الدنيا لا يجعلنا ننسى الرفق بمن لم يحالفه التوفيق.

وما أجمل مشهد اللاعبين في بعض المباريات الأيام الماضية والغالب يواسي المغلوب ويهون عليه ويخفف ألمه.

– فوزنا في الدنيا ليس نهائيا ومن ثم يجب الحذر من الكبر والغرور، والحرص على الفوز الأخير يوم القيامة.

– فوزنا في الدنيا في أي مجال من مجالات الحياة يدفعنا لمزيد من الإنجازات، وهو مصحوب بالنية الصالحة والرغبة الصادقة في تقديم نموذج المسلم القوي الناجح القدوة في سلوكه وعمله وخلقه.

مفهوم الهزيمة أو الخسران

جاء مفهوم الخسران في الآخرة ليوضح لنا حقيقة الخسارة التي يجب أن نتجنبها.

والحق أن للهزيمة مرارة في النفس وحزن في القلب، وقد يصاب البعض باكتئاب يعزله عن الحياة أياماً أو شهوراً.

وقد أصاب الصحابة الكرام غمَّا وهمَّا بعد انكسارهم في غزوة أحد، وكان درسا وعظة بليغة سرعان ما تجاوزوها بعد أن فقهوها.

ترى طفلاً يبكي لأنه خسر في لعبة، ثم ما يلبث أن تنسيه لعبة أخرى قد فاز فيها، وترى بعض لاعبي كرة الكرم ينتحبون لخروج منتخبهم من سباق رياضي كبير، وبعد فترة تطول أو تقصر يجبر هزيمته السابقة بانتصارات أخرى فتمسح أسى الأمس الدابر.

وقد يقع المسلم في المعصية ويمتلكه الحزن ويظل يصارع نفسه ويجاهد هواه وينتصر على شيطانه، فإذا هو نقي الروح تقي القلب يمشى سوياً على صراط مستقيم، وقد غفر الله ما قدمت يداه.

إذن، كل خسارة في هذه الحياة رغم قسوتها، إلا أنها مجبورة يمكن تجاوزها إلى تحقيق انتصارات أخرى وفوز لاحق.

غير أن خسارة الآخرة لا جبر لها،

اقرأ قوله تعالى:

” قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَىٰ مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَىٰ ظُهُورِهِمْ ۚ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31) سورة الأنعام

وحينما يلعب الشيطان برأس من اتبع هواه، ويسوقه إلى حتفه، يزين له سوء عمله فيراه حسنا، وهنا يكون الخسران.

” قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) سورة الكهف

قد تخسر مالك في سبيل الله فهل هذا خسران؟

قد تخسر صحتك في سبيل الله فهل هذا خسران؟

قد تخسر حريتك في سبيل الله فهل هذا خسران؟

لا، لقد ساوم المشركون صهيب الرومي رضى الله عنه على ماله، فتركه له رجاء الهجرة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: فماذا قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

قال: ربح البيع.

لأن ذلك المال ذهب لله، وما عند الله خير للأبرار.

الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) سورة التوبة.

أما الخاسرون فهم:

… الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ أَلَا ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15) سورة الزمر

– الخاسر من آثر دنياه على آخرته.

– الخاسر من تنازل عن مبادئه وقيمه.

– الخاسر من نسى رسالته وقضيته وأمته.

– الخاسر من عكف على الدنيا وأهمل تربية أولاده، فربح الدنيا والتفت وراءه، فإذا أبناؤه قد شردوا وبعدوا. وحينها لات حين مندم.

– لو ربحنا رضى مولانا سبحانه وتعالى فقد ربحنا كل شيء.

– لو كسبنا صلاح أولادنا

واستقامتهم فقد ربحنا في الدارين.

والفوز بمحبة الخلق إشارة على محبة الله تعالى.

علينا أن نفوز بالدنيا في طاعة الله فهو الطريق والممر للفوز العظيم في الآخرة.

وعلينا أن نُحَول إخفاقاتنا إلى محطات نراجع فيها أخطاءنا ونحولها إلى منطلق للإصلاح والتغيير.

والله نسأل أن يجعلنا من الفائزين في الدارين.

طه سليمان عامر

رئيس هيئة العلماء والدعاة بألمانيا

المقالات المنشورة بالموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي المجلس الأوروبي للأئمة