العقيدة أم الأنفس والأموال والأخوّة؟ «قال يا هارون ما منعك»

يقول الحق تبارك وتعالى {قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا [92]أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي [93] قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي } [طه:94].

قال العلامة ابن عاشور في هذه الآيات قولا حكيما، واستنتج منها دُررًا في السياسة العامة، ربّما لا تجدها عند غيره ” وهذا اجتهاد منه في سياسة الأمة إذ تعارضت عنده مصلحتان: مصلحة حفظ العقيدة ومصلحة حفظ الجامعة من الهرج. وفي أثنائها في حفظ الأنفس والأموال والأخوة بين الأمة فرجّح الثانية.

وإنما رجّحها لأنه رآها أدوم، فإن مصلحة حفظ العقيدة يُستدرك فواتُها الوقتيّ برجوع موسى وإبطاله عبادة العجل حيث غيّوا عكوفهم على العجل برجوع موسى. بخلاف مصلحة حفظ الأنفس والأموال واجتماع الكلمة إذا عسر تداركها”.

رحمه الله كان صاحب نظر وتدقيق ورؤية علمية ثاقبة تجمع بين المصالح والمقاصد ومآلات الفعل ” وتضمّن قوله {إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي}.

وكان اجتهاده ذلك مرجوحا لأنّ حفظ الأصل الأصيل للشريعة أهم من حفظ الأصول المتفرعة عليه. لأن صلاح الاعتقاد هي أم المصالح التي بها صلاح الاجتماع، كما بيناه في كتاب أصول نظام الاجتماع الإسلامي.

ولذلك لم يكن موسى خافيا عليه أن هارون كان من واجبه أن يتركهم وضلالهم وأن يلتحق بأخيه مع علمه بما يفضي إلى ذلك من الاختلاف بينهم، فإن حرمة الشريعة بحفظ أصولها وعدم التساهل فيها، وبحرمة الشريعة يبقى نفوذها في الأمة والعمل بها كما بينته في كتاب مقاصد الشريعة”.

بمثل هذا الوعي الدقيق الذي يبثّه صاحب التحرير والتنوير، يمكن لنا تجاوز العديد من المعارك الوهمية التي سقطت فيها الأمة وتنازعت فيها بينها، وأحيانا مع غيرها من الأمم والنّحل، لأنها لم تتبيّن درجات المصالح وتراتبها، ومآلات الأفعال وآثارها.

المقالات المنشورة بالموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي المجلس الأوروبي للأئمة