الإسراء والمعراج: قيم ومقامات

الشيخ كمال عمارة

الشيخ كمال عمارة

يعتبر الإسراء والمعراج من أهم المحطات في سيرة الرسول ﷺ، ومن أشد الأحداث حضوراً في ذاكرة ووجدان المسلمين جيلاً بعد جيل، وذلك لما تحمله من قيم وأبعاد، وما نشأ عنها من تكليفات وتغيرات على مسار الدعوة الإسلامية.

وبعيدا عن التفاصيل الجزئية يمكن تقسيم الرسائل والإشارات التي حملها هذا الحدث العظيم إلى قيمٍ ومقامات.

فمن المقامات

مقام الرسول صلى الله عليه وسلم، ومقام الوحي ومقام الصلاة ومقام المسجد عموما والمسجد الأقصى خصوصاً.  

مقام الرسول

لا شك ان التكريم الذي حظي به النبي صلى الله عليه وسلم لم يحظ به أحد قبله ولا بعده، وهو يتناسب مع شخص الرسول ﷺ ورسالته والآثار العظيمة التي تركها على المسار الإنساني والكوني عموما. وإن لم يكن الإسراء والمعراج أول تكريم إلاهي حسي للرسول صلى الله عليه وسلم ولا آخره، فإنه أقصاه وأعلاه، وبلغ فيه من المجد منتهاه.     

وهو تأكيد لمقررات فضله في القران، كما في قوله تعالى: “وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (النساء 113)، وتذكير بوعدٍ وعده إياه ربه أن قد وجده يتيماً فآوى وضالاًّ فهدى وعائلاً فأغنى، ومن كان هذا شأنه عند مولاه فلن يتركه ربه ويخزيه ولسوف يعطيه فيرضيه، وأي عطاء أبلغ من أن أسري به إلى بيت المقدس وعرج به إلى السماوات.

فقد جدّه وزوجه صلى الله عليه وسلم، فآنسه ربه بقربه، وأنكره قومه فاعترف بفضله الملائكة والأنبياء، وأغلقت في وجهه أبواب الأرض ففتحت له أبواب السماء.

ولله درّ أمير الشعراء حين وصف مقامه صلى الله عليه وسلم في الإسراء والمعراج فقال:

 أَســرَى بـك اللـهُ ليـلا إِذ ملائكُـه       والرُّسْـلُ في المسجد الأَقصى على قدَمِ

لمــا خـطرتَ بـه التفُّـوا بسـيدِهم         كالشُّـهْبِ بـالبدرِ، أَو كـالجُند بـالعَلمِ

صـلى وراءَك منهـم كـلُّ ذي خـطرٍ      ومن يفُــز بحــبيبِ اللـه يـأْتممِ

جُـبْتَ السـمواتِ أَو مـا فـوقهن بهم       عـــلى منــوّرةٍ دُرِّيَّــةِ اللُّجُــمِ

رَكوبـة لـك مـن عـزٍّ ومـن شرفٍ        فـي الجيـادِ، ولا فـي الأَيْنُق الرسُمِ

مَشِــيئةُ الخـالق البـاري، وصَنعتُـه       وقدرةُ اللــه فـوق الشـك والتُّهَـمِ

حــتى بلغـتَ سـماءً لا يُطـارُ لهـا         عـلى جَنـاحٍ، ولا يُسْـعَى عـلى قَـدمِ

وقيــل: كــلُّ نبــيٍّ عنـد رتبتِـه            ويــا محـمدُ، هـذا العـرشُ فاسـتلمِ

مقام القران

القرآن معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم وأساس الدين، هو المنهج الناظم للعقائد والشرائع والأخلاق، والخيط الرابط بين الأرض والسماء وبين المثال والواقع، كما أنه المصدر الذي يوثق مسار الدعوة ومحطاتها ويمنحها المرجعية والمشروعية.

وفي رحلة الإسراء والمعراج  كان الوحي حاضرا من خلال حامله إلى الأرض وأمينه في السماء، جبريل عليه السلام، حيث كان رفيق النبي ﷺ في هذه الرحلة، ومن خلال توثيق التشريف والتكريم الرباني، قرآناً يتلى آناء الليل وأطراف النهار إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وثقها سورةً كاملةً باسمها أطلقها بمطلعٍ أثبت التمجيد للمُسرِي، والتشريف للمُسرى به، و محطات الرحلة ومراحلها، ومقاصدها وغاياتها، بسم الله الرحمن الرحيم:{ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (الإسراء 1)

مقام الصلاة

للصلاة مكانة لا تضاهيها أي عبادة أخرى، فهي أعظم ركن عملي في الإسلام. وارتباطها برحلة الإسراء والمعراج إشارة قوية إلى أهميتها وخصوصيتها، فالصلاة لم تشرع على الأرض كسائر العبادات، بل شرعت في السماء في أجواء من الحفاوة والتكريم شهدها الأنبياء المرسلون والملائكة المقربون، إذ أخذ جبريل بيد الني ﷺ إلى السماء السابعة ” ثم عَلَا به فَوْقَ ذلكَ بما لا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ، حتَّى جَاءَ سِدْرَةَ المُنْتَهَى، ودَنَا لِلْجَبَّارِ رَبِّ العِزَّةِ، فَتَدَلَّى حتَّى كانَ منه قَابَ قَوْسَيْنِ أوْ أدْنَى، فأوْحَى اللَّهُ إليه ما أوحى“  أوحى إليه خمس صلوات في اليوم والليلة، عماداً للدين وسمةً للمومنين وملاذاً وراحة للمتقين.   

لكل مؤمن معراج

مثلما أكرم الله عبده ونبيه محمدًا -صلى الله عليه وسلّم- بالعروج إليه ويسر له سبل الوصول إليه وأخرجه من وحشة الدنيا إلى الأنس بوصله وقربه، أكرم عباده المومنين في كل آن وحين بوسيلة للوصول إليه والأنس به، وهي الصلاة، وإن كانت وسيلة الرسول ﷺ في معراجه البراق وصحبة جبريل فإن وسيلة المؤمن في معراجه ركعات وسجدات تفتتح بالتكبير وتختتم بالتسليم. فالصلاة معراج المؤمن إلى ربه، وصلته بخالقه ومصدر قوته وراحته.

المسجد منطلق وموئل

وقعت حادثة الإسراء والمعراج في المرحلة المكية، قبل قيام الدولة الإسلامية وتكوين المجتمع المسلم، ورغم ذلك حمل هذا الحدث إشارات قوية إلى أهمية المسجد في الإسلام ومكانته في صلب هذه الدعوة الحديثة. فالرحلة انطلقت من مسجد وانتهت إلى مسجد ليكون المسجد محور الحياة الإسلامية ومنطلق البناء الداخلي والإشعاع الخارجي. ولقد أكدت النصوص القرانية والنبوية على أهمية هذا البناء في الحياة الإسلامية، عبر ربطها بالعبادات والقرب، ونسبتها إلى الله عز وجل نسبة تعظيم وتشريف، وتفضيلها على سائر الأماكن. ثم لتكتسب في المرحلة المدنية صورتها النهائية باعتبارها داراً للعبادة ومؤسسة للتربية ومدرسة للتعليم ووإطاراً مجتمعيا ومنتدى سياسياًّ ومنطلقاً لحشد الإمكانات والطاقات لخدمة الأمة ونشر الفضيلة والذود عن حمى الدين والحرمات.   

وإضافة إلى هذه الأبعاد الواقعية حملت رحلة الإسراء بعدا رمزياّ للمساجد التي كانت محطات لها، وذكرت في قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (الإسراء 1) في إشارة إلى خصوصية هذه المساجد ومكانتها ومحوريّتها في التدافع الحضاري والصراع بين الحق والباطل.

والتعبير بالأقصى يقتضي وجود قاصٍ وهو المسجد النبوي الشريف لتكتمل صورة المساجد الثلاثة التي لا تشد الرحال إلا إليها ولا يكتمل عز الإسلام ورفعة المسلمين دون رجوعها إلى حضيرة الأمة واستعادة دورها الرباديّ وتأثيرها الحقيقيّ، المسجد الحرام والمسجد النبوي والمسجد الأقصى.

وورود المسجد الأقصى في سياق رحلة الرسول ﷺ، وذكرُه في القران الكريم مباركاً وما حوله، يوجه رسالة إلى المسلمين قاطبة، أن لا عذر لهم في التفريط في حفظه واستخلاصه من أيدِ الطغاة والمنحرفين عن نهج الله تعالى، ” فالقدس آية من الكتاب من ضيعها فقد ضيع الكتاب”.    

ندعو الله تعالى أن يقيض لها من يستخلصها من أيدي الظالمين وأن يرزقنا الصلاة فيه محرراً.

كتبه الشيخ: كمال عمارة