إن تنصروا الله ينصركم | من سنن الله في النّفس والحياة

الشيخ الهادي بريك

الشيخ الهادي بريك

ورد هذا القانون في سورة محمّد عليه السّلام وهي السّورة التي يسمّيها بعض الصّحابة سورة القتال وهي مدنية بدون خلاف. قال تعالى (يا أيّها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبّت أقدامكم). هو قانون في جملة إسمية شرطية مشروطة. وعد صادق لا يتخلّف. كأنّما العلاقة بين العبد وربّه هي كذلك علاقة تعاقدية. بل هي كذلك. هو ميثاق الإيمان والتّوحيد والطّاعة ولزوم الصّراط المستقيم. ومن ذلك أنّه سبحانه لم يكره أحدا على إيمان ولا على كفر. لو شاء لأكره النّاس كلّهم على هذا أو ذاك. ولكنّه خيّرهم جميعا بقوله سبحانه (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر). عدا أنّه حذّرهم مغبّة الكفر وتوعّدهم بتحمّل المسؤولية كاملة وفردية يوم القيامة. ألا ما أطيب أن تكون العلاقة مع الله سبحانه علاقة تعاقدية حرّة. للإنسان فيها إرادته وحرّيته ومسؤوليته.

وأيّ تكريم أعلى من هذا التّكريم. وأيّ تحرير أولى من هذا التّحرير؟ ليس الله سبحانه ضعيفا حتّى يحتاج إلى نصير. إذ هو وحده الوليّ النّصير. إنّما جاء التّعبير مركّزا ليفيد أنّه من ينصر ما يحبّ الله سبحانه ينصره الله سبحانه. إن تنصروا الله معناها إن تنصروا ما يريد هو سبحانه نصره وإعلاءه وتحريره وتكريمه وتفضيله وإظهاره. من دين فيه قيم وكتب وأعمال وأقوال. وغير ذلك ممّا هو معروف. عبّر عن كلّ ذلك بنصرة الله سبحانه لتعظيم الأمر. كأنّما الذي ينصر تلك القيم هو ينصر الله نفسه. هو شبيه بقوله مرّات كثيرات أنّ من يطع الرّسول فقد أطاع الله. لأنّ الرّسول يتكلّم باسم الله وحده سبحانه. وهو مقام لا يتقلّده إلاّ رسول يوحى إليه. بمثل ذلك فإنّ من ينصر دين الله وقيمه في كلّ حقل ومجال وفي كلّ زمان ومكان قدر الإمكان فهو منصور من الله سبحانه. شروط النّصر إذن واضحة جليّة لا تحتاج إلى أحد يزيد بيانا. وليس فيها مزيد لمستزيد. هو شرط واحد لا ثاني له. نحن اليوم في حالة رثّة من حيث أنّنا أمّة احتلت أرضها وديست كرامتها وافترستها الدّيون وانهالت عليها الحراب من كلّ صوب وحدب. كيف المخرج؟ كيف ننتصر ونستعيد مجدنا التّليد؟ كلمة واحدة تلخّص طريق الانتصار: نصر الله سبحانه. أي نصر القيم التي جاء بها دينه عقيدة وخلقا وعبادة وشرائع وشعائر واعمالا وأقوالا وعلوما ومعارف. وغير ذلك مما ورد في الوحي. هل هناك بعد هذا الوضوح من وضوح؟ لنا في تاريخ النّبوّة مثالان كبيران: مثال بدر العظمى. إذ نصر القوم ربّهم سبحانه فنصرهم. ومثال أحد إذ خذل بعض القوم نبيّهم فخذلوا. وأمثلة أخرى كثيرة. بل في المعركة الواحدة ـ الطّائف مثلا ـ يكون نصر وخذلان معا. انخذل بعضهم ـ بل أكثرهم إلاّ قليلا ـ من حوله عليه السّلام في بداية المعركة فخذلوا. فلمّا ثابوا وآبوا نصروا. هو قانون صارم لا يحابي أحدا ولو كان نبيّا مرسلا. ولا يظلم ربّك أحدا.

قانون صارم مطّرد ماض لا يتخلّف. صيغ صياغة مقتضبة جدّا بجملة إسمية شرطية: إن تنصروا الله ينصركم. يسري ذلك على كلّ زمان وعلى كلّ مكان وعلى كلّ قوم. وما تثبيت الأقدام إلاّ صورة من صور النّصر وليس تثبيت الأقدام الوارد في هذا السّياق عدا معنى على تثبيت القلوب في الحياة كلّها إذ لا يثبت قدم حتّى يثبت فؤاد. ليس النّصر المقصود في هذا القانون مقصورا على النّصر في المعارك. ولكنّه النّصر في الحياة كلّها. حتّى مع الإنسان ونفسه. الحرب مثل الصّلاة. لا تستقيم صلاة حتّى تستقيم حياة. فلا خشوع في تلك حتّى يكون خشوع غالب في هذه. ومثل ذلك الحرب. لا نصر في حرب حتّى يكون نصر في الحياة التي قبلها. ولا ثبات في تلك حتّى يكون ثبات غالب في هذا. الإنسان ليس زرّا كهربائيا يعبث بها. إنّما هو نظام عاطفيّ روحيّ عقليّ نفسيّ معنويّ لا تغشاه التّحوّلات بالفجاءة إنّما هي معركة ترويض وتأديب وتزكية وتطهير دائبة دائمة. وممّا يقوّي جانب هذ القانون أنّه جاء مسبوقا بالنّداء الوصفيّ الثّابت لأمّة الإيمان (يا أيّها الذين آمنوا). وهو موضع دستوريّ كما يقول بعضهم. وهذا مفهوم لأنّه لا ينصر الله قوم كفروا به

قوام الأمة: مال وحرمات

ورد هذا القانون مبثوثا في موضعين. قال سبحانه في الموضع الأول منه في سورة النّساء (ولا تؤتوا السّفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما) وقال في الموضع الثّاني في سورة المائدة (جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للنّاس والشّهر الحرام والهدي والقلائد). العبرة هنا بقوله في الموضعين (قياما). وعند جمع الموضعين ـ إذ لا فقه إلاّ باستقراء موضوعيّ لا موضعيّ ـ نفيد أنّ قيام الأمّة بأمرين عظيمين هما: المال والحرمات الدينية. هو قانون منسجم الانسجام كلّه مع ثقافة الإسلام. أي رعاية الجانب المادّيّ والجانب المعنويّ في الآن ذاته. في الإنسان فردا وأسرة وجماعة. الإسلام منسجم كلّ الانسجام مع الإنسان ذاته. فهو يرعى تركيبه المزدوج. لا يتعسّف عليه ولا يحرجه أو يثرّبه. الذين لم يرعوا ذلك الازدواج في الغابر والحاضر فشلوا فشلا ذريعا وهجرهم الإنسان. تلك هي أكبر نقطة قوّة في الإسلام ـ وإن كان كلّه قوّة ـ أنّه يرعى الإنسان فطرة مزدوجة وجبلّة مركّبة. المال وما يرمز إليه من قوّة وريش وما إلى ذلك هو قيام للأمّة. أي لا مناص منه لقيامها. والقيام ضدّ الضّعف والقعود والاستكانة. ومثل ذلك الكعبة البيت الحرام وتعظيم الشّعائر والحرمات بصفة عامّة. ذلك هو أيضا قيام للأمّة.

ربّما اختار الحجّ هنا بسبب أنّه شعيرة تحتوي على العبادات الأخرى. إذ فيه الصّلاة وفيه الصّيام أحيانا وفيه إنفاق المال في إيماء إلى الزّكاة وفيه الجهد البدنيّ وفيه الاجتماع والاشتراك. بل فيه الجهاد كذلك. إذ هو جهاد حقيقيّ. سيما للبعيد والضّعيف. ولكن يظلّ المقصود هو الدّين كلّه بكلّ شعائره وشرائعه. وليس الحجّ هنا ـ سياقا ـ إلاّ ترميزا. لا مناص للأمم كلّها من قيام ماليّ لحضارة الحياة وطيب العيش ومن قيام دينيّ لزكاة الرّوح وطهارة النّفس ومنافع أخرى ومصالح لا تعدّ ولا تحصى. وما عدا ذلك حضارات عوراء وثقافات حولاء وزبد راب سرعان ما تعبث به الرّياح.  تضييع المال بمثل تضييع الدّين. ألسنا نرى اليوم أنّ المال وحده لا يغني من الله شيئا إذ تبرّجت دول وتغوّلت حكومات ولكنّها أشدّ خواء من البطون الجائعة. وبمثلها شعوب مسلمة يفترسها الجوع وهي مؤمنة ويستبدّ بها الألم من كلّ جانب وهي تقيّة ولكنّها تقوى فاسدة؟ هذا قانون عظيم ينبّه الأمّة المسلمة بصفة خاصّة أنّ القيامين مطلوبان. صنوان لا يفترقان. فلا يغني أحدهما عن الآخر في الدّنيا على الأقلّ: القوّة المالية وما تعنيه وما تقتضيه بكلّ آثارها والقوّة الدّينية بما تعنيه وما تقتضيه وبكلّ آثارها كذلك. قوّة مالية بدون قوّة روحية هي شريعة غاب مفترسة مستبدّة مآلها السّقوط المدوّي. وقوّة روحية عزلاء منزوعة الدّسم الماليّ الماديّ معرّضة إلى العدوان في كلّ طرفة عين. ولم ترد كلمة (قياما) بهذا المعنى عدا في هذين الموضعين بما يجعل المرء جازما مطمئنّا أنّ قيام الأمّة بأمرين: المال دنيا والدين روحا

بقلم الشيخ: الهادي بريك