أولادنا في أوروبا وآفاق التربية

الشيخ طه عامر

الشيخ طه عامر

 إن تربية أبنائنا في بيئتنا وعالمنا المعاصر تربية إسلامية واعدة أمراً ليس هيِّنا، فدونه عقبات وتضحيات، ولكن في الوقت ذاته ليس بعيد المنال أو مستحيلاً، رغم ما للبيئة من تأثير كبير على أخلاق وسلوك وعقيدة الطفل ومعالم شخصية الشاب والفتاة، غير أن الكلمة الأخيرة ستبقى للأسرة، وهذا مرهون بحسب نوع التربية التي يتلقاها الطفل، وطبيعة النشأة التي سينشأ عليها، ومدى ما يبذل الوالدان من جهد، وشكل العلاقة الناضجة والثقة المتبادلة بين الآباء والأبناء، والحرص على إشباع الحاجات الأساسية عندهم.

بوسعنا أن نُقدم لألمانيا وأوروبا وللعالم جيلاً محباً لوطنه ناشراً للعلم والرحمة والعدل والمحبة والسلام، مؤمنا بالله تعالى، موصولاً به محباً له، متعلقا بالرسول الأسوة ﷺ، نافعاً للناس، منتميا لأمته، محبا للخير لكل للعالم.

أربع حقائق مهمة بين يدي المقال/

1- كل جهد صادق لا تضيع ثمرته:

من سنن الله تعالى التي جعلها قانوناً يحكم حركة الحياة، أن لكل مجتهد نصيب من سعيه، وأن من أتقن عمله وسهر الليالي وصل إلى مبتغاه، وأن من طلب شيئا وبذل فيه نفسه وصل إلى مراده.

وربنا الرحمن ذو الفضل العظيم لن يُضيع تعب أم سهرت لحراسة دين أولادها، تعليماً وتوجيهاً وتهذيبا وتزكيةً وتطهيراً.

إن الله لا يضيع جهد أب أطعم أولاده حلالاً، وبذل جهده ليكون لهم قدوة، وقرأ وتعلم ليقوم بمهمته الكبرى وصبر وصابراً وأحسن التوجيه والنصح. 

«إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ» (90) {يوسف}

ولكل من يواجه معاناةً في التربية ويعالج أزمات ومشكلات فليتأمل هذه الآية لتأخذ بيده نحو العمل الجاد وبذل الجهد النفسي والفكري، وتبشره بأن الله سينير طريقه ويهديه لأفضل السبل:

«وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ» (69) {العنكبوت} 

وتبقى كلمة مهمة، وهي: ليس كل جهد في تربية الأبناء يفضي إلى غايته المأمولة، فالمطلوب أن نبذل جهداً عن علمٍ ومعرفةٍ.

على المربي أن يأخذ حظه من العلم بأساليب التربية، وفقه للواقع الأوروبي/ طبيعته/ عاداته/ ثقافته/ لغته/ مشكلاته/ بالقدر الذي يعينه على مهمته، فلا يصح أن يكون غريبا عن المجتمع.

إن صلاح الآباء وحده لا يغني، والجهد العشوائي التقليدي لا يثمر كثيراً، واستنساخ التجارب من الشرق والغرب واستيراد الأساليب التربوية دون تمحيص وغربلة ووزنها في ميزان الشرع والعقل ورصيد التجارب المعتبرة، يؤدي إلى نتائج وخيمة.

ولو أننا بذلنا أقصى جهدنا وحصَّلنا من المعارف التربوية والتجارب العملية الكثير والكثير، وقرأنا عشرات الكتب في التربية وفنونها ومهاراتها، فإن ذلك وحده لا يُفضى إلى صلاح الذرية لو خلت تلك الجهود من التوكل على الله تعالى وصدق اللجوء إليه والتضرع بين يديه والحرص على أكل الحلال وتقوى الله تعالى.

 «وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا» (9) النساء  

 2- التجارب الواقعية باب الأمل:

نعم، رغم الصعوبات التي تعترض أولادنا وشبابنا في عالمنا المعاصر، فتهدد هويتهم وعقيدتهم، غير أن هناك كثيراً من الأسر المسلمة قدمت نماذج رائعة في تربية أبنائها، حيث جمعت بين الصلاح والإصلاح، والتألق الإيماني والتأنق الأخلاقي.

والتجارب بين أيدينا كثيرة، ولعلي أذكر بعضاً منها، لأسر بسيطة في تكوينها العلمي والثقافي:

– دُعيت يوما لعقيقة في بعض المساجد بضواحي مدينة فرانكفورت، وجلست بجوار رجل مغربي تجاوز السبعين، وأثناء الحوار سألته كم عدد أولادك؟ قال: خمسة، وبدأ يذكرهم بأسمائهم ووظائفهم، فيهم الطبيب والمهندس والمعلم، فسألته كيف نجحتَ في تربية أولادك؟ قال: أردت أن يكونوا للدنيا وللدين، قلت: كيف؟ قال: لقد اشتريت بيتا في المغرب وحينما كبر أولادي قمت ببيعه حتى ألبي حاجاتهم التعليمية كاملة غير منقوصة، يقصد اللغة العربية والتربية الإسلامية، ورفع مستواهم العلمي والثقافي. العجيب أن هذا الرجل لم يحصل على شهادة جامعية ولا متوسطة، فكيف فعلها هو وزوجته؟ 

إنه بركة الصدق والجهد والصلاح واكل الحلال.

– سألت عددا من الشباب الذين لا يبدو عليهم أنهم وُلدوا في ألمانيا، لأنني لاحظت أن لغتهم العربية قوية لا يظهر عليها لحن جلي أو خفي، وسألتهم عن سر اتقانهم للعربية فأجاب بعضهم – وأمه ألمانية مسلمة – أن الفضل يعود لأبيه، إذ  كان يتولى تعليمه ويقضي معه أوقاتا لتعليمه.

وأمَّا بقية الشباب فقد أجمعوا على أن الفضل يعود لمجاهدة الأم مع أولادها تعليما وتحفيزا، فلغة التواصل بالمنزل كانت اللغة العربية، مع ما تلاقيه الأم في ذلك من جهد عظيم، إضافة إلى دور المساجد والمدارس العربية نهاية الأسبوع، والعطلة الصيفية التي كانوا يقضونها في البلاد العربية في عطلة الصيف.

وأحب التنويه هنا لأمر هام وهو:

إن كثيرا من المهاجرين القدامى والجدد  – من غير المسلمين –  يحرصون على تعليم أولادهم لغاتهم الأم، مثل اليونانيين والإيطاليين والكروات وغيرهم، وأسسوا لذلك مدارس نهاية الأسبوع وقد لقيت بعض الشباب الكروات المولود في ألمانيا فرأيته يتقن  الكرواتية مع الألمانية، قراءة وكتابة ومحادثة، وأخبرني أن والدته كانت تذهب به منذ الصغر إلى المدرسة الكرواتية بفرانكفورت نهاية الأسبوع،  ولا ريب أن  المحافظة على لغات الآباء له أثره الإيجابي على المجتمع، إنسانيا وثقافيا واجتماعيا وتواصلا حضاريا .

علينا معاشر الآباء والمربين وكل مهموم ببناء الجيل أن نجالس أصحاب التجارب الناجحة، فنفيد من خبراتهم وننتفع بنصائحهم لنعرف مَنْ نجا كيف نجا، فإننا أحيانا نقف على ظاهر الأشياء دون سبر أغوارها والوقوف على حقائقها.

 يجب أن ندرك أسباب النجاح والفشل في التجارب التربوية، فنتأمل أسرار التوفيق لنهتدي بها، ونقف على عوامل الفشل فنحذرها. والسعيد من اتعظ بغيره.

  3- لا تكليف إلا بوسع:

تلك القاعدة الجليلة مستنبطة من قول الله تعالى:

«لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا …» البقرة (286)

إن الله جلَّ وعلا لم يكلفنا فوق طاقتنا، وإن كلفنا بشيء أمدنا بأسبابه، ولم يأمرنا بما لا قدرة لنا على القيام به، فالواجبات التي كلفنا الله بها تدخل عادة ضمن قدرتنا وإمكاناتنا، فإن عجزنا عن شيء لظرف خارج عن إرادتنا فقد جعل الله لنا سبيلا فيما رخص لنا، وما نهانا الله تعالى عنه نستطيع أن ننتهى عنه، فهو الخالق الذي يعلم السر وأخفى ويعرف طبيعة خلقه «أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ» (14)  {الملك}

فمن رسم طريقه وعرف قبل أن يتزوج غايته من الزواج، وغايته من الإنجاب هانت عليه التكاليف، ولنتعلم من السادة الأنبياء عايهم أزكى صلاة وسلام كيف تكون الغاية من وجود الأولاد في حياتنا، ها هو زكريا عليه السلام دعا ربه: «قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ۖ إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ» (38) {آل عمران}

 هب لي من لدنك ذرية طيبة …. طيبة النشأة، طيبة القلب، طيبة الفكر، طيب الروح، طيب الخلق، طيبة السلوك، طيبة الحياة.

وفي موضع آخر : «وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ۖ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6)»   {مريم}

هب لي من لدنك وليا، لك خالصا، لك عابدا، لك داعيا مخبتا منيبا. والوراثة هنا هى وراثة العلم، ووراثة الحكمة، ووراثة رسالة الإصلاح والتغيير والهداية والنور، والقيام بحق الخلافة في الأرض.

 قال رسول الله ﷺ: «إن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورِّثوا دينارًا ولا درهمًا، إنَّما ورَّثوا العلم، فمن أخذَه أخذ بحظٍّ وافر» رواه أبو داود والترمذي.

 4-  أطفالنا .. فطرة سوية وقلوب نقية:

تناول القرآن الكريم الحديث عن الفطرة في مواضع كثيرة، قال تعالى: «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ» (30) {الروم}

يقول الإمام الطبري في معنى قوله جلَّ ذكره: ” فطرة الله “: “صنعة الله التي خلق الناس عليها” 

قلت: لقد أسرتني هذه العبارة من الإمام الطبري. وإنني أرجو من القاريء الكريم أن يقف عندها.

 “صنعة الله”….. الكاملة الوافية المباركة التي لا عِوج فيها ولا تفاوت.

 إن الله جلَّ في علاه لم يصنع شيئا إلا وهو في غاية الإتقان والإحكام والنظام والتناسق والجمال، أما الفوضى والتشتت والفساد فهى مما جنته يد بني آدم.

خلق الله الكون مباركا فسيح الأركان جميل البنيان متناسق التركيب، طيبا مباركا فيه، وما أصابه من فساد وخلل وثلوث بيئي ظاهر يهدد البشرية بالفناء، واعتداء على الطبيعة فهو أثر من جشع الإنسان وطمعه وحجوده لنعمة الله وأنانيته البغيضة.

يقول النبي ﷺ موضحا حقيقة الفطرة السوية التي خُلق عليها الإنسان:

«ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء، ثم يقول أبو هريرة -رضي الله عنه- فطرة الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم» رواه البخاري ومسلم .

وفي حديث رواه مسلم في الصحيح يقول الله تعالى: «إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانًا».

تلك هى الحقيقة، حنفاء: أى مائلين وقابلين للحق بفطرتهم السليمة.

فالطفل ورقة بيضاء وقطعة من نور الحق وضياء التوحيد، وهى كالأرض الخصبة تجني منها ما زرعت فيها، فإن غرستَ في أحشائها ورْداً رجعت عليك بورود زاهية الألوان عطرة الرائحة، وإن غرستَ صبَّارا، {نبات شديد المرارة} لن تجده إلا مُرَّاً، وإن زرعتَ شوكا لن يكون ياسميناً.

اغرس في قلب ولدك محبة الله تعالى والرغبة في لقائه والشوق إلى جنته، ستراه يخشى الله ويتقه إذا خلا بمحارمه. 

 اغرس في قلبه محبة الرسول ﷺ ومعرفته عن علم وفهم، وصِل قلبه به بكثرة مطالعة سيرته الشريفة والصلاة عليه، سيترسم خطاه ويهتدي بهداه ويقتفي أثره يترنم بالصلاة والسلام عليه.

واعلم أيها القارئ الكريم أنك بقدر ما تتمنى تتعنى كما قال أهل العلم، أي: على قدر غايتك وعلو همتك تكون التكاليف، وكدّ الليل والنهار، وكما قال الشاعر:

لا تحسبنَّ المجد تمراً أنت آكله *** لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرَ

– هل تريد أن يكون ولدك صالحاً مصلحاً، نقياً تقياً، راشداً مرشداً، كريماً وفياً، شجاعاً أبياً؟

اصنع له عالَماً وبيئة تعينه على طريق الإيمان والصلاح والإصلاح، والطهر والنقاء، والعطاء والوفاء.

–  هل تريد أن يكون ولدك رفيقاً حنوناً لطيفاً كريماً إيجابيا ًمبادراً  للخيرات وصَّالاً للرحم مجافياً للمنكرات ؟

كن به رحيما قريبا ودودا.

–  هل تتوق أن يكون بك باراً حَفِياً؟

  املأ قلبه حباً وعطفاً تجده بك عطوفاً رحيماً وفيَّاً رضياً، اجعل الرفق لك شعارا والرحمة دثارا والحنان رداءً.

يبين الإمام أبو حامد الغزالي في الإحياء تلك الحقيقة التربوية الهامة في عبارة ذهبية رائعة:

«والصبيان أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة ساذجة خالية عن كل نقش وصورة، وهو قابل لكل ما نُقش، ومائل إلى كل ما يُمال به إليه، فإن عُود الخير وعُلمه نشأ عليه وسعد في الدنيا والآخرة وشاركه في ثوابه أبوه وكل معلم له مؤدب، وإن عُود الشر وأُهمل إهمال البهائم شقى وهلك، وكان الوزر في رقبة القيم عليه والوالي له».

كم أشعر بالألم والحزن حينما قرأت كلام الإمام أبي حامد… نعم، قلوب أطفالنا طاهرة نقية وفطرتهم خالية من الشهوات والشبهات ومن فتنة الدنيا وزينتها، قلوب طاهرة من الحقد والحسد، طاهرة من الكراهية، قلوب بريئة، تُسعدها كلمة وتأسرها بسمة، قلوب لا يَعْلَق بها أثر خصام عارض ولا غضب طاريء، لا تعرف الكيد والمكر السيء، كأن قلوبها قطعة من السماء في يوم رائق لا تبصر إلا الصفاء والنقاء، فكيف نحافظ عليها، وكيف نبقيها بجمالها وروعتها ورقتها؟

ولماذا تتغير الفطرة وتنحرف وتنجرف، وتتبدل وتتغير؟ هذا سيكون موضوع مقالنا القادم بحول الله تعالى.

طه سليمان عامر

عضو المكتب التنفيذي للمجلس الأوروبي للأئمة

رئيس هيئة العلماء والدعاة بألمانيا