أخبر القرآن الكريم عن نفسه أنّه شفاء. ورد ذلك عامّا ثمّ خصّص بقوله سبحانه (يا أيّها النّاس قد جاءتكم موعظة من ربّكم وشفاء لما في الصّدور). ولكن عندما نقرأ القرآن بأعيننا لا بأفئدتنا فإنّنا لا نلقي بالا لهذا التّخصيص. وعندما نقرأ القرآن الكريم مجزّأ مشتّتا فإنّنا لا نظفر منه بشيء. إذا كان القرآن الكريم شفاء عامّا مطلقا غير مقيّد فأيّ معنى لقوله (شفاء لما في الصّدور)؟ وإذا كان شفاء للأبدان والأجسام فلم كان يوجّه (عليه السّلام) المرضى من صحابته إلى طبيب مشرك هو (الحارث بن كلدة)؟ ولماذا ازدهرت مهنة الطّب في بغداد وقبل ذلك وبعده حتّى جمع بعض العلماء في التّاريخ بين علمي الدّين والطبّ؟ وعندما يقضي الله سبحانه بأن يبرأ سيّد قبيلة لديغ بسبب قراءة سورة الفاتحة عليه فهل يعني ذلك نسخ آيات طلب العلم في كلّ المجالات والحقول؟ ماذا لو فهم ذلك المسلمون الأوّلون؟ إذن لما كان ابن رشد وابن سينا وغيرهما ممّن جمعوا بين الدين والدنيا.
ما هي العاهات العربية التي عالجها القرآن؟
إذا كان الصّحابة هم الذين حملوا هذا الشّفاء بقوّة إلى واقعهم فأصلحوه فهل لنا اليوم أن ننسخ المنهاج الذي وضعوه فشفاهم الله به؟
من أكبر العاهات العربية لمّا نزل هذا الشّفاء تأبّيهم عن الانقياد والانضباط والاجتماع أنفة وكبرا. ولمّا فقهوا أنّ إجتماعهم شفاء حملوا أنفسهم حملا عجيبا على بناء سقف واحد يؤويهم ولكنّه لا يصادر حرياتهم ولا يشطب تنوّعاتهم. لا زلت على رأيي القديم أنّ تلك المعجزة لا تضاهيها معجزة. معجزة هذا الشّفاء العظمى هي توحيد الصفّ العربيّ تحت سقف سياسيّ واحد. وكلّ واحد منهم كان قبيل ذلك بقليل مارجا من نار يفور أبّهة. من العاهات كذلك حالة الأمّية التي كانت تستبدّ بالوجود العربيّ. كلّ ضروب الأمّية: الابتدائية والحضارية العمرانية. ولمّا عالجوا أنفسهم بهذا الشّفاء فإنّهم قادوا الأرض كلّها بعلومهم ومعارفهم في كلّ التخصّصات الكونية. وأضحت عواصمهم السياسية قبلة طلبة العلوم والمعارف (من دمشق إلى بغداد و من غرناطة إلى القسطنطينية). والحقّ أنّه من لم يدرس كلّ ذلك من كتاب المستشرقة الألمانية (سغريد هونكه) ” شمس الله تسطع على الغرب ” لن يقدّر هذا الشّفاء قدره. وهل قامت حضارة الغرب المعاصرة سوى من بعد استيرادها لتلك العلوم والمعارف في إثر حروب الفرنجة؟ تلكما عاهتان نجح العرب في شفاء أنفسهم منهما إذ فقهو كيف يعالجون أنفسهم (عاهة التفرّق أنفة وعاهة الأمّية).
منهاج تناول الشّفاء القرآنيّ:
١- الجمع بين الكتاب والميزان. بمثل ما ورد في الوصفة الطبية في سورة الحديد. إذ لا يتحقّق مقصد القيام بالقسط حتّى يؤخذ بكفتي الشّفاء معا (الكتاب + الميزان).
٢- الجمع بين حرف القرآن وحدّه معا. كما قال حبر الأمّة (يأتي على النّاس زمان كثير قرّاؤه قليل فقهاؤه).
٣- الوعي الكافي برسالة القرآن الكريم أنّها رسالة تحريرية جامعة شاملة. كما صدع بذلك واحد من الذين تشرّبوا هذا الوعي الصّحيح وهو يثقب بسيفه بلاط فارس. (ربعيّ بن عامر: جئنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة ربّ العباد).
٤- تناول الشّفاء القرآنيّ أنّه حركة جماعية لا فردية. وأنّه جاء ليشفي النّاس. وليس أمّة بعينها فحسب. أو فردا بعينه فحسب. ولولا ذلك لما صاغ كلّ نداءاته بضمير الجمع خطابا للمؤمنين وللنّاس ولبني آدم.
٥- توظيف كلّ الولاءات الجزئية والانتماءات الفرعية لأجل رصّ صفّ واحد وتشييد سقف واحد. وليس تحكيم الفرعيّ في الكلّيّ.
٦- الوعي منذ البدء بأنّ إصلاح النّفس ليس مقصودا لذاته. بل تأهّلا لخوض معركة الإصلاح أمرًا بالمعروف ونهيا عن المنكر. أمّا تزكية النّفس لأجل الفرار من النّاس بزعمه أنّهم هلكوا فهو أحبولة شيطانية.
٧- فقه سنن الاجتماع وقوانين العمران جنبا إلى جنب مع فقه الدين في أوامره ونواهيه وحلاله وحرامه. وليس تضخيم هذه وإهمال تلك.
ما هي عاهاتنا المعاصرة؟
١- جاء الشّفاء القرآنيّ يأمر بالعلم والمعرفة. ولكنّ حصيلتنا المعاصرة من ذلك هي : أكثر من ثلاثة أرباع المسلمين هم أمّيّون بالكامل. أيّ نصيب لك أن تتصوّره لأمّة عنوان دينها (اقرأ) وسلاحه (القلم) وهي أمّية في عالم يتنفّس علما ومعرفة؟
٢- جاء الشّفاء القرآنيّ يعلّمنا أنّ الاختلاف إرادة ربانية ماضية مطّردة. وأنّ التدين هو تركيب الخلافات في بوتقة التعاون. ولكنّ حصادنا هو: صوفية تكفّر السّلفية. وسلفية تكفّر الصوفية. ووهابية تزدري الأشعرية. وثكنة عسكرية تسمّي نفسها (أهل السنة والجماعة) تقصي من تشاء وتؤوي من تشاء.
٣- جاء الشّفاء القرآنيّ يأمر بإقامة العدل والحكم به بين النّاس وفق منهاج عنوانه (طاعة الله أوّلا ثمّ طاعة رسوله ثانيا ثمّ طاعة الاجتهاد من أهله في محلّه ثالثا). وليس كسبنا مذ دهسنا الشّرعية عام 40 هجرية عدا إعادة إنتاج بليد لنظام كسرويّ هرقليّ وراثيّ عشائريّ قبليّ ما جاء الإسلام إلاّ لتحرير البشرية منه.
٤- جاء الشّفاء القرآنيّ يأمر بالجهاد تحريرا للأرض المحتلة والعرض المنهوك. ولم يكن حظّنا من ذلك سوى تنافسا محموما على التّطبيع مع الكيان الغاصب لأغلى أرضنا (مسرى محمّد عليه السّلام وثالث الحرمين وأولى القبلتين).
خلاصة:
١- القرآن الكريم شفاء لما في الصّدور أوّلا. في الصّدور شخصية معنوية تتركّب من العقل والرّوح والنّفس والعاطفة والذّوق. وهو في الآن ذاته شفاء نفسيّ ووقاية من الأمراض الرّوحية. هو لقاح عنيد يقوّي المناعة الداخلية. وعندما يأذن له الله أن يبرىء علّة بدنية فهو استثناء. وليس هو القاعدة الأصلية.
٢- القرآن الكريم شفاء ككلّ شفاء. أي أنّ الذي وصفه أرفق معه بمنهاج وقائيّ وعلاجيّ. كما يفعل كلّ طبيب يفحص مريضا. لا يصف له دواء حتّى يشترط عليه لزوم منهاج تناول ذلك الدّواء. حمل الشّفاء القرآنيّ معه منهاج تناوله وشدّد في ذلك على أمرين: الميزان الذي ينزّل ذلك الشّفاء من جهة وإتّباع محمّد عليه السّلام. إذ هو خير من تشرّب ذلك الشّفاء وخير من عالج به الإنسان. القرآن الكريم شفاء لمن يؤمن به أنّه كذلك ثمّ يتوقّى به من الأمراض توقيّا ثمّ يعالج به الحياة. أمّا الحبّ وحده فلا يصنع شفاء ولا يطرد علّة.
٣- القرآن الكريم شفاء يعالج كلّ زمان وكلّ مكان. فإذا تناولناه لمعالجة أدواء ذهبت في سبيل حالها فإنّا لا نجني عدا قعود وعطالة وبطالة وكسلا. هو شفاء متجدّد ينبض حياة. ومؤهّل لمن يفقهه لمعالجة كلّ تحدّ جديد. وهو شفاء يبرئ الأحياء الذين يسمعون. أمّا الموتى فلا يشفيهم. وهل يحتاج الموتى إلى شفاء؟
القرآن الكريم شفاء دون ريب.
ولكن كيف ندّعي به وصلا ونحن مرضى منذ قرون سحيقات غابرات؟
ذلك هو السّؤال المفتاحيّ الصّحيح.
بقلم الشيخ: الهادي بريك.